اتحادات الشاغلين.. باب سرّي جديد للتمويل المشبوه - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 4:45 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اتحادات الشاغلين.. باب سرّي جديد للتمويل المشبوه

نشر فى : الإثنين 1 مايو 2023 - 9:15 م | آخر تحديث : الإثنين 1 مايو 2023 - 9:15 م
لم يكن أحد يتصوّر أن تلك الجمعية الأهلية الصغيرة التى نشأت فى الإسماعيلية عام 1928 أو عام 1929 باختلاف الروايات، والتى أطلق عليها مؤسسها اسم «الإخوان المسلمون» سوف تصبح الأكثر ثراءً فى مصر عندما صدر قرار حظرها الأول ومصادرة أموالها عام 1949. كذلك أهمل الكثيرون حقيقة التنوّع الكبير فى مصادر تمويل جماعات الإسلام السياسى وفى مقدمتها جماعة الإخوان المحظورة، التى تعتبر الوعاء الأكبر والمفرخ المعاصر لمختلف الجماعات الأصولية التى ملأت الأرض إرهابا ورجعية. من اليوم الأول لإنشاء تلك الجماعة كان التمويل هو الشغل الشاغل لمؤسسها ومرشدها، وهو السبب الرئيس فى صراعات مبكرة ومعاصرة بين قياداتها، أبرزها الصراع بين حسن البنا نفسه وهو المرشد الأول والأب الروحى وبين أحمد السكّرى شريكه الأبرز بل ورئيس الجمعية الصوفية التى سبقت فى تأسيسها جماعة الإخوان، وكان البنا سكرتيرا لها.
وإذا كانت التبرعات هى المصدر الأول والأكبر لتمويل الجماعة، حتى بعد ارتفاع عدد أعضائها والمتعاطفين فى دوائر الأعضاء، وارتفاع حصيلة اشتراكاتهم وزكواتهم، وبعد تشعّب الأنشطة الاقتصادية للجماعة فى مجالات توظيف الأموال والاتجار فى العملات والاستثمار التجارى والمالى والعقارى والسياحى والتعليمى والصحى.. وبعد انتشار فروعها وتمددها شرقا وغربا وإقامتها للتنظيم الدولى للإخوان الذى تمكّن من إنشاء مؤسسات مالية كبرى مثل «بنك التقوى» الذى تعرّض للملاحقة فى أعقاب هجمات الحادى عشر من سبتمبر، ثم أطلق بعدها بصفقة فقد خلالها الكثير من ثرواته.. إلا أن مختلف المؤسسات والجمعيات الأهلية بل والنقابات التى عمدت الجماعة إلى السيطرة عليها كانت دائما واجهة لجمع التبرعات والتغلغل فى المجتمع، وكانت التبرعات تجمع تحت ستار الدين والإغاثة والجهاد، ولكن المصارف تختلف دائما وتذهب إلى تمويل مقار الجماعة واستثماراتها وحملاتها الانتخابية بل وفى شراء سيارات لأبناء القيادات كما تشير أصابع الاتهام الإخوانية إلى بعض قيادات الجماعة حاليا، وبما لا ينكره المرشد المؤسس نفسه فى رده على «السكرى» بأن الإنفاق على المرشد يعد مصرفا مناسبا للتبرعات، بل إن إنفاق الجماعة على أى شىء هو فى إطار مصرف شهير للزكاة وهو «فى سبيل الله» إذ إن الجماعة تعمل فى سبيل الله!!
هكذا سوّغت فتاواهم أكل الأموال والتربّح باسم الدعوة ونشر الإسلام الصحيح، حتى وإن كان الكثير من تلك التبرعات تأتى من جهات أجنبية ومشروطة بتعاون مريب مع المانحين، مثل أهداف محاربة الشيوعية فى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضى التى كانت ستارا لعمل الجماعة وجمعت باسمها مساعدات أمريكية. ومثل أهداف مقاومة الإنجليز فى فلسطين والقناة، والتى لم تمنع الجماعة من جمع تبرعات من الإنجليز أنفسهم سواء بصورة مباشرة (مثل التبرع الأشهر للجماعة من شركة قناة السويس لبناء المسجد والمقر الأول) أو بصورة غير مباشرة عن طريق حكومات الأقلية التى كانت تستعين بالإخوان لمضايقة حزب الوفد.
إذن كان التوظيف السياسى للإخوان قائما عبر العصور سواء فى فترات القوة أو فترات الضعف، وكان المال السياسى وما زال هدفا لجماعات التطرّف لتحقيق هدف السيطرة الذى انتشر فى عهد التلمسانى (المرشد الثالث) بمفهوم «التغلغل الهادئ فى المجتمع»، بالسيطرة على النقابات ومؤسسات المجتمع المدنى بل والمؤسسات السيادية كلما أمكن، وانتشر فى عهد مصطفى مشهور وغيره من الصقور والقطبيين بمفهوم «فتح مصر» باعتبار أننا أمة فى جاهلية وأن الجماعة هى جماعة المسلمين الوحيدة! وانتشر بمسمّى «التمكين» فى مشروع بديع والشاطر ورفاقهما.. (انظر كتاب أموال الإخوان من حسن البنا إلى إبراهيم منير للأستاذ عبدالقادر شهيب).
كذلك تم استغلال النقابات التى سيطر عليها الإخوان (قبل صدور القانون رقم 100 الشهير الذى عطّل أعمال النقابات منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضى وقضى بعدم دستوريته بعد ثورة يناير) فى أعمال تجنيد الأعضاء، واستغلال أصول النقابات من مقار وسيارات وغيرهما لخدمة أهداف وأنشطة الجماعة، وكانت تستخدم لتوظيف أعضاء الجماعة، ولتصريف منتجات الإخوان من شركات مالك والشاطر التى كانت تقيم معارض سلعية للمهنيين، تحقق منها أرباحا قدرها البعض بما لا يقل عن 150 إلى 300 مليون جنيه! وهذا باب هام لموضوع مقال اليوم، وهو باب تربيح الغير، من خلال صفقات يستأثر بها الإخوان على ما سواهم.
• • •
تلك كانت مقدمة هامة لفهم الآلية التى تعتمد عليها الجماعة منذ نشأتها الأولى، خاصة فى فترات التقييد والتضييق أو المحن التى تستثمر من قبل أعضاء الجماعة الناجين من السجون والفارين خارج البلاد لإعادة ضخ مصادر تمويل جديدة فى شرايين الجماعة حتى إذا ما انكشفت الغمة كما سبق أن انكشفت عام 1954 لفترة وجيزة، وخلال السبعينيات، ثم بشكل جزئى خلال حكم الرئيس الأسبق مبارك وبشكل كامل بعد رحيله، أمكن للجماعة أن تنهض بقوة وبسرعة!! استثمار الأزمات قوامه مظلومية تستحق الدعم والتبرع، كما حدث من السعودية وبعض دول الخليج الأخرى التى استضافت قيادات الإخوان خلال الحقبة الناصرية ومكنّتهم من أنشطة العمل الأهلى والتعليمى والدينى بشكل حقق لهم الثروات، كما أغدقت بعض هذه الدول الأموال لمحاربة المد الاشتراكى فى مصر وكان الإخوان كعادتهم وكيل العمل المستأجر لتحقيق تلك الأهداف.
يبدو أننا لم نتعلم الدرس بشكل جيد، إذ لم ننتبه إلى ظاهرة مقلقة تتطوّر بسرعة مستغلة ضعف القانون وترهّله، وانشغال الناس بقضايا الساعة الاقتصادية. بعد أن انتشرت فى مصر الأحياء السكنية والمنتجعات المغلقة، فقد انتشرت فى بعض تلك الأحياء الكثير من الجمعيات الأهلية سواء الدينية أو التعليمية والتى سيطرت على مساجد تلك الأحياء وشرعت فى توظيفها بذات الطريقة التى اعتادها الإخوان والسلفيون عبر تسعة عقود! تقديم الخدمات وفتح أبواب التبرع لقضايا مختلفة منها ما يرتبط بتنمية الأحياء ومنها ما لا علاقة له بها هو أيضا أحد أهم أنشطة تلك الجمعيات التى أصبح إنشاؤها يتم بالإخطار. هذه الجمعيات تسير على ذات الخطى التى سار عليها البنا وأتباعه، فهى تعتمد على التبرعات ثم تفتح بابا لتشغيل أعضاء التنظيم فى الجمعيات تحت بند العاملين عليها، ثم تفتح أبوابا لتربيح مقاولى وتجار التنظيم المستترين فى أعمال مقاولات وإصلاحات وتطوير بالأحياء بتبرعات الأعضاء.
وبعد أن انتبهت الدولة إلى مخاطر عمل الجمعيات الأهلية أولا فى عهد مبارك ومؤخرا عندما تم التحفّظ على أموال 1133 منها بقرارات ما بعد ثورة يونيو، أتوجس اليوم من تحوّل ذات الأشخاص الذين أقاموا الجمعيات أو سيطروا على مساجد الأحياء وجمعوا التبرعات باسم العمل الخيرى، للسيطرة على مجالس إدارات اتحادات الشاغلين، وهى باب واسع للفساد وتوظيف الأموال فى مجالات يصعب الرقابة عليها، خاصة إذا أمكن لتلك المجالس استغلال قانون البناء الموحّد الذى ينظم عملها، لتمرير زيادات كبيرة وغير مبررة فى مدفوعات ما يسمى بأعمال الصيانة، ثم غسل تلك الأموال أو تمريرها إلى شركات تعمل فى مجالات خدمية ومقاولات تتعاقد معها المجالس المنتخبة (بأقلية واضحة) بالأمر المباشر أو بمناقصات صورية، ثم يعجز الجهاز الإدارى لوزارة الإسكان عن التعامل مع كثير من تلك المخالفات، خاصة لما يتمتع به بعض أعضاء الاتحادات من علاقات وثيقة بأجهزة المدن، وهذا النوع من الأعضاء إما أنه ينتمى إلى اتجاهات فكرية معينة أو يتم اللجوء إليه كواجهة للاتحاد (لا ننسى أن أول حزب للإخوان عمد إلى تعيين ابن رئيس الطائفة الإنجيلية فى رئاسته).
القانون الضعيف المنظّم لعمل الاتحادات، والذى تجرى حاليا محاولات خاطئة لتعديله ليمنح صلاحيات أكبر للمجالس، يسمح بانتخاب مجلس الاتحاد بأقلية بائسة، خاصة حال عدم اكتمال النصاب فى الجمعية الأولى للانتخابات والذى لا يكتمل أبدا، وهو ما يمكن لأى جماعة منظمة استغلاله لمصلحتها ولو كانت أقلية، تماما كما كان يحدث فى النقابات المهنية قبل إصدار القانون 100 لسنة 1993 الذى اشترط توافر ثلث الأعضاء على الأقل لتتم الانتخابات، والذى بعد إلغائه وصحوة الشعب وإسقاطه الإخوان فى 30 يونيو 2013 تمكّن المهنيون من محو السيطرة الإخوانية على كثير من النقابات المعروفة تاريخيا بخضوعها لهم، وهو الأمر الذى لا يمكن أن نضمنه فى التجمعات السكانية التى تتميز بالسلبية والعزوف عن المشاركة فى الانتخابات أو إدارة شئون الأحياء، بما يفسح مجالا واسعا لسيطرة جماعات منظمة (لا أجزم أنها تنتمى إلى تنظيمات محظورة أو إرهابية) على اتحادات الشاغلين وتحويلها إلى حديقة خلفية لتوليد مصادر تمويل لأنشطة غير مشروعة، بل ولجمع التبرعات بالملايين بهدف تطوير الأحياء وبناء الأسوار وتعزيز الأمن... وذلك من خلال التعاقد مع شركات بعينها.
• • •
ناهيك عن دور خفى تمارسه بعض تلك الاتحادات من إشاعة جو من السلبية لإشعال الغضب بين السكان من الظروف الاقتصادية والسياسية، ومن استخدام المساجد فى اجتماعاتها بصورة غريبة توحى بإضفاء صبغة دينية على قراراتها! ومن استخدام آليات للحشد لا تختلف عن طرق الإخوان التقليدية، ومنها تجنيد خطباء المساجد، وكتائب إلكترونية لدعم قرارات الاتحاد ومهاجمة كل مخالف لها، على طريقة «موتوا بغيظكم». ومع الأسف تتسع أعمال اتحادات الشاغلين لكل ما تقره الجمعيات العمومية (التى أغلبها يشوبه البطلان أو فى القليل يتم تمريره بأغلبية هزيلة) وتمكن بعضها من مضاعفة ما تتحصل عليه من السكان فى أيام قليلة، وبغير مقاومة تذكر، نتيجة استغلالهم أموال الاتحاد فى إقامة دعاوى لمضايقة وملاحقة المعترضين، ثم لا نعرف أين بالضبط تذهب تلك الأموال فى ظل تردّى الأوضاع الأمنية والتشغيلية للأحياء.
لا يعنى ذلك أن نعمم الحكم أو أن نتهم كل الاتحادات القائمة بما ليس فيها، ولكننى أشير إلى مخاطر محتملة يمكن أن تمر من ثقوب فى التشريع والتطبيق، من واقع مشاهدات واقعية عاينت بعضها بنفسى فى غير حى سكنى، وكان من الضرورى أن ندق ناقوس الخطر لتعديل قانون البناء الموحّد، لمنع تغوّل اتحادات الشاغلين وفرض رقابة مزدوجة على أعمالها وأموالها، والتحرّى عن مرشحيها وأعضائها نظرا لتعاملهم فى المال العام.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات