منذ حوالى شهر واحد كتبت مقالا تحت عنوان: أسئلة لمن يريد قيادة الأمة. لكن إخوانا أعزاء فى مصر الحبيبة أرادوه أن يكون مدخلا لحوار متفاعل ثرى طرح فى جريدة «الشروق» المصرية تحت عنوان «حوار مفتوح.. نحو مرحلة جديدة فى العمل العربى المشترك.. شروط القيادة» وككل الحوارات تباينت واختلفت الآراء حول طبيعة الموضوع المطروح وبالتالى حول الاستنتاجات والمقترحات.
مقالى الذى نشرته آنذاك انطلق من قاعدة فلسفية تقول بأن المبادئ هى ما تتحدد بها الأشياء فى تركيبتها وفى وسائلها. وهى قاعدة أثبتت أحداث التاريخ البشرى الكبرى أهميتها. فعلى سبيل المثال كان للمبادئ والقيم الإسلامية الفضل الأكبر فى تحفيز ودفع العرب الممزقين المتناحرين نحو بناء ونشر حضارة عربية إسلامية بالغة الحيوية فى نتاجاتها المادية والمعنوية، وبالمثل كان للأفكار الفلسفية والمبادئ السياسية الإنسانية التى طرحها كبار المفكرين والكتاب الفرنسيين والأوروبيين الفضل الأعظم فى تفجير الثورة الفرنسية وفى تحديد مكوناتها وأهدافها ومسيرتها التاريخية إلى يومنا هذا.
ولذلك، فعندما طرح البعض أنفسهم، أو طرحتهم جهات خارجية لأسباب تخصها، كمرشحين لقيادة الأمة، وذلك من أجل إخراجها من وضعها المعلول البائس المجنون الذى تعيشه حاليا، كان لا بد من طرح أسئلة مفصلية جادة فى أمور السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة على أولئك المرشحين لمعرفة المنطلقات والأسس والمبادئ التى سيحتكم إليها من يتصدى لمهمة القيادة.
الأسئلة لم تكن معنية بتسمية من هو مؤهل للقيام بذلك، فالوضع العربى المستباح الممزق المتصارع لم يبق فيه مؤهل بديهى جاهز نتوجه إليه. وبصراحة، فإن المتأهل لا يكفيه أن يتمتع بغنى اقتصاد ريعى مظهرى، خصوصا إذا كان ذلك الاقتصاد تحت هيمنة النظام الرأسمالى النيوليبرالى العولمى، ولا يكفيه أن تكون لديه ماكينة إعلام وعلاقات عامة تنسج له أحلاما لا تمت بصلة بحقيقة الواقع العربى كله، ولا يكفيه أن ترشحه صراعات المسرح الدولى لأسباب تخصها وتخدم أهدافها الاستراتيجية.
المؤهل يحتاج أن يلتزم بمشروع إصلاحى وتغييرى جذرى يخرج الأمة، كل الأمة، من تخلفها التاريخى الطويل. من هنا أهمية الحديث عن المبادئ والأهداف التى ستحكم ذلك المشروع والتى، بعد صوغها والاتفاق عليها، ستشير إلى من هو المؤهل.
فإذا كانت المبادئ غامضة، أو سطحية أو مظهرية كلامية، أو تختفى وراء أقنعة، فإن الحديث عن مشروع قومى إنقاذى، تحمله وتدعو إليه وتناضل من أجله هذه الجهة العربية أو تلك، يصبح بلا معنى.
من هنا طرحنا الأسئلة التى نعتقد أنها ستوصل، إن أجيبت بصدق وموضوعية والتزام قومى، إلى تبنى الآتى:
1ــ أن يكون الهدف النهائى هو وحدة هذه الأمة فى كيان أو نظام سياسى موحد يتفق عليه، حتى لو كان ذلك تدرجيا، يبدأ بالتضامن والتنسيق والمؤسسات المشتركة، وينبنى على أسس علمية واقعية. ولنا فى تجارب الآخرين، من مثل الاتحاد الأوروبى أو الاتحاد الماليزى أو الفيدرالية الأمريكية، أمثلة نحتذى بنجاحاتها.
2ــ أن تراعى تلك الخطوات التوحيدية الانتقال التدريجى المتنامى إلى حياة سياسية تمارس المتطلبات الديموقراطية العادلة بكل تجلياتها الدستورية والقانونية والمؤسساتية ونظام الحكم، والتى تؤدى إلى الحرية وتكافؤ الفرص والمواطنة المتساوية وترفض الانحيازات الطائفية والقبلية فى الحياة السياسية.
3ــ أن يلتزم المشروع ببناء تنمية إنسانية شاملة ومستمرة، بما فيها اقتصاد إنتاجى معرفى يراعى عدالة توزيع الثروة والتزامات دولة الرفاهية الاجتماعية وحقوق الفقراء والمهمشين ورفض إملاءات الهيمنة العولمية الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة.
4ــ الانخراط فى عملية كبرى لتجديد الثقافة العربية وتخليصها من كل ما علق بها من تخلف فى الفكر والمنهجية، بما فى ذلك الدفع لبناء حداثة عربية ذاتية عقلانية إنسانية أخلاقية، تتفاعل مع حداثات الآخرين بندية وتسامح، وتساهم مع الآخرين فى تطوير حضارة العصر واغنائها.
تبنى تلك التوجهات الوجودية والتقدمية هو الضمان لأن لا يكون للوجود الاستعمارى والصهيونى مكان فى أرض العرب، ولأن لا يكون هناك ظلم وتهميش لأى مكون من مكونات الأمة.
هل هناك أمل فى أن يوجد من يحمل ذلك المشروع ويناضل من أجل نشره وتبنيه؟ نعم، هناك أمل كبير فى شباب هذه الأمة. إن ما فعلوه من حراكات مبهرة وما قدموه ويقدمونه من تضحيات يؤكد وجود إرادة التغيير، وحتى التضحية بالنفس من أجل تحقيق تلك الإدارة.
من يتابع أفكارهم وشعاراتهم وأفعالهم يعرف أنهم، بالرغم من كل الانتكاسات وكل الأخطاء، قد قرروا التعايش مع قدرهم الداعى إلى تغيير الوضع البائس الذى تعيشه أمتهم.
دعنا من أنظمة الحكم ورجالاتها، فأغلبيتهم غير معنية إلا بصراعاتها وطموحاتها وارتهاناتها. ليس بينها، مع الأسف، من هو مؤهل لحمل مسئوليات ذلك المشروع، والأمل هو فى وعى المجتمع المدنى العربى.