قفزت البنتُ من قُرفُصائِها واستَوَت في لحظةٍ واقفةً على قدميها، مُطلِقةً صرخةً قصيرة، فقد تلقَّت شكَّةً في كفّها من نَبتةِ صبَّار، حاولت أن تقتربَ منها وأن تقطفَ زهرتَها.
طالما تلقينا الأشواكَ ونحن صغار وأطلقنا أيضًا الصرخات، وقضينا دقائقَ طويلةً وأحيانًا ساعاتٍ؛ نحاول نزعَ تلك الإبر الرفيعة التي تخترقُ الجِلدَ فيعجبها المقامَ فيه وترفضُ مغادرته.
• • •
الشَكَّةُ في قواميس اللغةِ العربيةِ اسم مرة من الفعل شكَّ، وهي كذلك مرادف للوخزة؛ ألم سريع مُحدَّد المَوضِع ودقيق، لا يشمل مساحةً واسعةً مِن الجسم إنما يبقى في حيزٍ ضيق وربما شديد الضيق، هو أيضًا حاد بطبيعته ويحمل صبغة المفاجئة.
• • •
إذ يُوصَف فعلٌ من الأفعالِ بأنه أهونُ من شَكَّة الدبُّوس؛ فالمعنى أنه لا يستدعي القلقَ ولا يستوجِبَ فترةً طويلةً من التأهيلِ والاستعداد. العِبارةُ لا تكني فقط سهولةَ الِفعل وبساطته بل وسرعةَ إتمامه. الدبُّوس خفيفٌ رغم أنه ثاقِب، أذاه مَحدود، واحتماله يَسير وشكَّته عابرة.
• • •
هذا الذي "ينشك في قلبه" هو في غالبِ الأحيانِ شخصٌ ارتكب خطأً لم تغفِره امرأةٌ. يُطلَق عليه الوصفُ في غيبته للإشارة والتعريف؛ دون ذكر الاسم، والتجهيلُ ها هنا بمنزلةِ ازدراء يعكس الرغبةَ العميقةَ في نبذِ المَوصوفِ واستبعاده. ندر أن يستخدمَ رجُلٌ هذه الصورةَ البلاغيةَ في مُواجهة امرأةٍ أو حتى ضِدّ قرينٍ له، فالنساء في العادة أوسع حيلةً لغويًا وأقدر على صَوغِ الاستعاراتِ وابتكار الكناياتِ التي تُستَخدَم في تفاصيلِ الحياةِ اليومِية.
• • •
في طواقِمِ التمريضِ من النساءِ والرجالِ على حدّ سواء مَن يَملِكون خفَّة اليد ومهارتَها، لا يكاد المَريضُ يشعُر بها تغرِز المحقَنَ في الجِسمِ؛ تسحبُ عيناتِ الدماءِ أو تدفع بالسوائلِ والدواءِ إلى العروق. البعضُ منهم ثقيلُ اليدّ خشنُ الفِعل، يُحرِّض مَن تعاملَ معه على الفرار ما أوقعه الحظُّ في رعايته مُجدَّدًا.
• • •
من النَّاس مَن تعوَدوا على شَكَّةٍ يَومِيةٍ أو أكثر، تدرَّبوا عليها وخَبروها وصاروا قادرين على وَخزِ أنفسِهم دون مُعاوَنة مِن أحد. أصحابُ قياسات السُّكر المُرتفعة التي لم تعد الأقراصُ صالحةً للسيطرة عليها واستبقائِها دون حدِّ الخَطر، ينتقلون رغمًا عنهم إلى جرعاتٍ مَحسوبةٍ من الإنسولين، شكَّةٌ وراء أخرى يصبح الأمرُ مُعتادًا؛ وإن بقي الأملُ قائمًا في العثور على علاجٍ شاف.
• • •
عَايشتُ مِن الأقرباءِ مَن إذا علِمَ بحاجتِه لإجراء بعضِ الفحوصاتِ والتحاليلِ الطبيةِ؛ انكمش في حجرته قبل أن يَصِلَ الطبيبُ، فإذا رأى المحقنَ صاح مَوجوعًا قبل أن يقتربَ منه، وإذا اقتربَ أغشيَ عليه خوفًا. لم يكُن الألمُ أبدًا بيتَ القصيدِ؛ إنما الظنُّ في خبرةٍ قديمةٍ شديدة السوء، أو خيال جامح يُصَور الشكَّةَ وكأنها طعنةٌ مهولة، أو ربما هو قرارٌ من اللاوعي باستباقِ ما قد تأتي به الأقدار.
• • •
إذا عَمَّ الفَرحُ وطاف بالأجواءِ السُّرور، وطال الفضولُ بالضيوفِ إزاء الحدثِ الوَشيك، ثم ظهرت أخيرًا العروس؛ ارتفعت الأصواتُ من حولِها تحميها وتحرسها: "شكَّة في عينك ياللي ما تصلي ع النبي". عبارةٌ عتيقةٌ مَحفوظة؛ يروم قائلُها صدَّ الأعينِ المُترقّبة وردَّ حسدِها وحَجبَ المَنظورِ مِن ضَرَر. إذا انشكت العينُ فَسَدَ البصرُ وتعطَّلت المُترتِّباتُ عليه.
• • •
الشكُّ في ذاته وثيقُ الصِلَةِ بالشَكَّة؛ كلاهما مُزعِج مُسَبِّب للألم رغم تفاهته، وكلاهما قادر على جَذب انتباهِ صاحبِه وحصارِ أفكارِه في منطقةٍ شديدةِ المَحدودية. الشَكُّ مَصدر أرقٍ لا ينتهي ما لم يُحسَم بالنفي أو التأكيد، ومثله الشَكَّةُ ما ظَلَّ المُسَبِّبُ قائمًا مَوجودًا. شَوكَةٌ في الأصبع تقضُّ المضجعَ وتُحرِّم النومَ، وشُكوكٌ في الرأسِ قد تُشعل الغَضَبَ وتُورثُ الجنون.
• • •
إذا كان الفعل جسيمًا وأثره على المرء ضعيفا عابرا؛ فلخلل قد اعترى نفسه وأفسد استقباله للأمور، وإذا جاءت على الوجه صفعة؛ فعدها الواحد في مقام الشكَّة وتغاضى عنها، كانت الحال من الهوان بمكان.