اختارت «لجنة لندن التنظيمية للدورة الأوليمبية» المخرج دانى بويل ليتولى إخراج افتتاح أوليمبياد بريطانيا وإدارته فنيا. ودانى بويل هو مخرج فيلم «سلامدوج مليونير» ــ الذى قابل رواجا ونجاحا كبيرا على مستوى الجوائز وأيضا شباك التذاكر. واختار بويل أن يحتفى بصورة معينة لـ«بريطانيا» تتمحور حول إنتاجها الثقافى، وحس الفكاهة والممازحة عندها، وتسامحها مع الاختلاف والتعددية، واهتمامها بالإنسان العادى، وبالأطفال، وبالمعوقين. فرأينا بريطانيا المزارعة بحقولها وطقوسها واحتفالاتها المحلية الصغيرة، تصاحبها كلمات شكسبير، ثم رأينا بريطانيا الثورة الصناعية بمناجمها ومداخن مصانعها، تصاحبها كلمات وليم بليك، ثم امتلأت الساحة بشخصيات شهيرة، محبوبة أو مرهوبة، من قصص الأطفال، فظهر بيتر بان، الولد الذى رفض أن يشب، وفولديمورت، شرير روايات هارى بوتر، وميرى بوبنز، المربية البريطانية المثلى، وملكة القلوب من رواية أليس فى بلاد العجائب، وغيرها ــ وكلها شخصيات ساهمت فى تشكيل خيال العديد من أطفال العالم. ثم احتفى العرض بمستشفى شارع جريت أورموند للأطفال، وهو المستشفى العام الأقرب لقلوب البريطانيين، ولمعت على المدرجات حروف ضخمة تقول: «إن إيتش إس» وهو اختصار إسم «مؤسسة الرعاية الصحية الوطنية» التى تحتضن كل أهل البلاد بتأمينها الشامل، وبعد هذا جاءت فقرة موسيقية تحتفى بعطاء بريطانيا الموسيقى منذ البيتلز إلى وقتنا، وغيرها وغيرها.
وشاهد هذا العرض فى بريطانيا ٢٣ مليون شخص، وحظى بأكثر من بليون متفرج خارجها، فكانت الفرصة العظمى لبريطانيا أن تقدم للخارج «إعلانا» عن نفسها، وللداخل سردا يُوَحِّد المواطنين حول رؤية لهويتهم ودورهم فى تاريخ الإنسان وحضارته. وهنا تكمن المشكلة الكبيرة التى أدت إلى الجدل المحتدم الآن فى الرأى العام البريطانى حول هذه الاحتفالية، فبريطانيا بحاجة فعلا إلى مثل هذا السرد، فهى لم تصل بعد ــ فى هذا الزمن المعاصر الذى يبدأ منذ الستينيات من القرن الماضى ــ إلى القصة التى تحكيها عن نفسها ويتفق عليها كل البريطانيين.
قد يتفق الكل على أن بريطانيا كانت جزيرة صغيرة زراعية، ثم صارت دولة صغيرة شجاعة مغامرة، ثم إمبراطورية لا تغرب الشمس عن ممتلكاتها وقوة صناعية ضخمة، ثم انسحبت (أو طُرِدت) من مستعمراتها ــ ثم.. ماذا؟ ماذا تمثل بريطانيا اليوم؟ ما هو دورها فى العالم؟ هى عضو فى الاتحاد الأوربى ــ لكنها ترفض الاندماج فيه. هى تحاول مجاراة الولايات المتحدة لكن معظم مواطنيها يرفضون دور «كلب أمريكا الأليف». ومن هم مواطنوها أساسا؟ وما درجة مواطنة، مثلا، الشباب ذى الأصل الكاريبى الذى أحرق الشوارع والمحال منذ شهور؟ أو الملتحين المجلببين الذين لا تراهم إلا مقطبين حول المساجد؟ وهل المواطنة درجات؟ وهل المواطنون «مواطنون» أم «رعايا» للملكة؟ فقدت بريطانيا إيرلندا، وهى فى طريقها لفقد اسكتلندا، وويلز تحيى لغتها وتتحدث عن الانفصال. إذا انتهى الأمر لأن تجد انجلترا نفسها وحيدة فى «بريطانيا العظمى» فماذا يعنى أن تكون انجليزيا؟ و ــ مرة أخرى ــ وُصِف الملايين من حاملى جوازات السفر البريطانية ذوى الأصول الهندية والباكستانية والكاريبية والعربية بالـ«بريطانيين»، ولكن هل يمكن وصفهم بالـ«إنجليز»؟
ويرى البعض أن مشكلة الهوية والدور لا يمكن حسمها بدون مواجهة الحقائق حول الدور التاريخى الاستعمارى للبلاد، وممارساتها العنصرية والطبقية. عرض دانى بويل لم يتعرض بالمرة ــ طبعا ــ للدور السىء الذى لعبته بريطانيا فى مستعمراتها، والآثار المدمرة التى خلفتها هناك. لكن العرض تضمن وصول أول باخرة تقل مهاجرين من البلاد الكاريبية إلى شواطئ بريطانيا ــ والكل يعلم مدى التمييز العنصرى الذى لاقاه أولئك المهاجرين فى «الوطن الأم» كما سموه. والعرض أتى بأعداد من الشباب الأسمر يغنى ويرقص، ويعيش ويتزاوج مع الشباب الأبيض، فيقول من هم (من منظورى) تقدميون أن هذه الصورة مثالية لدرجة بعيدة وأنك لا يصح أن تتعرض لقصص الموطنين السمر بدون أن تتعرض لتاريخ بريطانيا فى تجارة العبيد وفى بناء ثروتها على عرق العبيد فى البلاد الكاريبية والمستعمرات الإفريقية. أما الرجعيون (من منظورى أيضا) فيقولون إنهم ملوا تمجيد المجتمع «المتعدد»، وأن عرضا كهذا أحرى بالصين الشيوعية، وأن ما تحتاجه بريطانيا هو أن تعود لتصبح إمبراطورية من جديد. فعلا.
وهناك أيضا انتقادات للتباين بين الرؤية التى يقدمها عرض دانى بويل والواقع المحيط بهذه الرؤية. فيتأذى التقدميون من احتفاء العرض بـ«مؤسسة الرعاية الصحية الوطنية»، بينما هذه الحكومة، الجالس رئيسها يشهد العرض من المقصورة الملكية، قد حاربت حملة شعبية واسعة للحفاظ على هذه المؤسسة فمررت قانونا منذ أسابيع سيؤدى حتما إلى دخول آليات السوق فيها وتفكيكها. ويتأذى الوطنيون من الاحتفاء بالثورة الصناعية حيث كانت بريطانيا «مصنع وورشة العالم» فى وقت تقلصت فيه الصناعة إلى أن صارت تمثل ١٢٪ فقط من الدخل القومى ــ وقد ترتب على هذا آثار اجتماعية ضخمة من بطالة وتشرد. ويتساءل الكثيرون عن أمانة الاحتفاء الـ«إنسان الصغير» وقد هُجِّر الناس قصرا من منازلهم لتقام فيها المبانى والمنافع والخدمات الخاصة بالأوليمبياد، ونشر الجيش مدافعه على أسطح البيوت القريبة مما سوف يجعلها الهدف الأول للإرهابى المفترض، وكثرت المقاعد الشاغرة فى العروض لغلو أسعارها ولتخصيص الكثير منها للشركات ــ فكان الإحساس الغالب عند المواطن العادى هو الإقصاء. تعلق إحدى صديقاتى البريطانيات «نحن فى وقت تراجع اقتصادى والحديث كله عن عجز الميزانية وضرورة التقشف، ألم يكن من الأنسب أن يكون الاحتفال أهدأ من هذا؟ أليس هذا المستوى من الإنفاق مستفزا؟ « وينبهر المعلقون من سوء التقدير الذى سمح للجنة الأوليمبية بأن تمنح لماكدونلدز تصريح خدمة المأكولات، ولكوكاكولا تصريح بيع المشروبات.
يقول اليمين إن البريطانيين هكذا كثيرو الشكوى ولا يحبون النجاح. وينقسم اليسار (والانقسام عادة اليسار فى كل مكان) بين من يرى أن العرض الافتتاحى يمثل تحديا لنظام الحكم الجالس ممثلوه فى المقصورة ومواجهة أيديولوجية معهم، وفريق يرى فيها تغليفا وتجميلا لهذا النظام، ومسكننا للشعب الذى تطمئنه هذه الاحتفالات بمؤسساته بينما يجرى قتلها. فسوف يعود أطفال وممرضات مستشفى شارع أورموند، كما يعود الآلاف الذين شاركوا متطوعين فى إقامة هذا الحفل لحياتهم، وسوف يطفئ الملايين التلفزيونات فى نهايته، ولم يتغير أى شىء فى سياسة الدولة التى تستهدف الشعب ومؤسساته ــ لكن الجميع تعاطى مهدئا يسكتهم لفترة.
صرح دانى بويل بأن أمله أنه «بعد كل الصخب والإثارة، ستلمحون خيطا ذهبيا من العزم (يشير نحو) فكرة أورشليم القدس ــ فكرة العالم الأفضل، عالم الحرية الحقة، والمساواة الحقيقية». ولنتغاضى للحظة عن غرابة أن يستمر البريطانيون فى التغنى بـ«أورشليم» التى رمز بها شاعرهم الكبير وليم بليك، فى القرن التاسع عشر، للمجتمع المثالى ــ أن يتغنوا بها اليوم بالرغم من الشر الذى يرتع فيها والذى كان لهم أكبر الباع فى زرع جذوره وتغذيتها فى أوائل القرن العشرين ــ ولنذكر فقط أن فيلم دانى بويل الأشهر، «سلامدوج مليونير» أثار أيضا جدلا كبيرا؛ فهو ينتصر للشاب الهندى الفقير ساكن العشوائية، لكنه يختزل النجاح فى تحقيق الشاب للحلم الأمريكى الاستهلاكى حين يربح الملايين فى مسابقة تلفزيونية ويفوز بالفتاة الحسناء. يعنى، باختصار، دانى بويل ليس ثوريا، ولو كان ثوريا لما وضعت الدولة تحت تصرفه ٢٧ مليون استرلينى هى ميزانية عرض الافتتاح.
فى النهاية، نحن، الجمهور، نتفرج الآن على أمهر وأقوى رياضيى العالم يمتعوننا بعروض رائعة ويبهروننا بقدرات الإنسان. لا أكاد أصدق ما أراه على الشاشة من أناقة السباحين، وانضباط لاعبى الجمباز، ومهارة ــ مثلا ــ فريق الجزائر النسائى لكرة الشاطئ. هل من الحتمى أن يغلف إنجازهم العظيم وتنافسهم الراقى بهذا الغلاف السميك من الشركات الاستهلاكية المدمرة لصحة الإنسان العادى وجيبه؟ هذا، فى الواقع، سؤال كبير، أكبر من أوليمبياد لندن، هو سؤال حول حجم الدولة ومسئولياتها، وعلاقة الحكومة بعالم المال والأعمال، والنظام الضريبى للدولة، وتركيبة ميزانيتها ــ هو سؤال حول فلسفة الدولة وانحيازاتها، وعلى أى أسس يدار المجتمع. وهو سؤال ظن الاتحاد السوفييتى أنه وجد الإجابة له، ثم ثبت فشله، وظن الغرب الرأسمالى أنه وجد الإجابة له ــ إلا أنها فى طريقها إلى الفشل. وهو سؤال ظنينا، فى العام الماضى، أننا سيتاح لنا أن نشارك العالم فى البحث عن إجابة مبتكرة شريفة مثرية له، فحال جيشنا ورجال ونساء النظام البائد بيننا وبين هذا الحلم.
لكننا لم نفقد الأمل. العالم يبحث عن إجابة، ومصر، التى بادرت فى مطلع التاريخ إلى بحث وبلورة مفاهيم الأخلاق والمجتمع والدولة، أثبتت فى الثمانية عشرة شهرا الماضية أنها لا تزال صاحبة أفكار وهمة وطاقة، فربما، ربما يأتى اليوم الذى نقيم فيه أوليمبيادا فى مصر، يتنافس فيه رياضيو العالم، ويسانده اقتصاد متعدد لمجتمع قوى، ويشارك فيه شعب متحقق، ونقص فى عرضه الافتتاحى قصة وطن نحبه، ونخدمه، ونتفق على الحكاية التى نحكيها عنه.