قال عضو هيئة التدريس بجامعة مصرية عريقة وهو يضحك خلال جلسة عائلية، إنه يتذكَر وهو بعد طالبٌ مُجِدٌ مُجتهِد فى كلية الهندسة، كيف ظلَ يقرأ ويدرس طيلة سنة كاملة فى كتاب لا يستوفى أبسطَ المعايير والشروط الفنية؛ طباعةٌ رديئة، رسومٌ غير واضحة، صورٌ لأجهزة يَغلِب عليها السواد فلا أجزاؤها ظاهرة للطالب ولا سوادها بتاركٍ مساحة لإعمالِ الخيال.
قال إنه مثله كمثل أغلب الطلاب، اعتقد أن هذه هى الحال العادية، إلى أن صادف ذات يوم فى بيت أحد الأصدقاء الموسرين الكتابَ ذاته، فى طبعته الأصلية المُلونة، القادمة رأسا من الخارج، فتبين مَصدوما أن الأجهزةَ التى يدرسها كأشباحٍ وتهويمات يُمكن رؤيتها بوضوح والتعرُف على مُكوِناتها، وأن الرسومَ البيانية تختلفُ بدورها تمامَ الاختلاف حين تنتشر فيها الألوان فتُعَزِز وجودَها ودلالاتها. الصدمةُ الهائلة لم تُغيِر مِن الواقع شيئا؛ فمِن أين له بالكتابِ الأجنبى باهظَ الثمن، عزيزَ المنال؟
***
استعدت حديثه المُفعَم بالشجون رغم ما تخلَله من ضحكات، حين عرفت بقرارات أخيرة اتخذتها وزارة التربية والتعليم، فقد نشرت الصُحُف قبل أسابيعٍ قليلة أن المسئولين سعوا إلى تخفيض نفقات طباعة الكتب التعليمية عبر اتخاذ سلسلة من الإجراءات؛ حذف التدريبات مِن الكُتُب المدرسية، ودمج ما يُدَرَس منها على فصلين فى كتاب واحد، وأخيرا تقليل عدد الصفحات الملونة فى كُتُب التعليم الفنى. ظهرت مع الخبر صورة لوزير التربية والتعليم، وعلى وجهه ابتسامةٌ واسعة.
***
سنون كثيرة مرت ما بين مرحلة شباب الأستاذ الجامعى وبين الجيل الحالى من الطلاب، أما الحال فلم تتبدل. تجمع بينهما معاناةٌ واحدةٌ صادرة عن فكرٍ عَقيم، لا يعطى أولوية للتعليم الجيد ويرى أن استقطاعَ نصيب مِن نفقات إعداد الكتب وطباعتها وتحسين هيئتها وإخراجها فى أفضل صورة، أمرٌ تافهٌ لا يُهم كثيرا، وأن الإخلال بجودة المُنتَج النهائى الذى سيصل إلى أيدى الطلاب أطفالا وشبابا فعلٌ مُباح، لا يضُر ولا يشين. وَجَمت وقد استقر فى نفسى أن خبرا مثل هذا لا يمكن أن يمرَ مرور الكرام إلا بقومٍ فقدوا عقولَهم، واستبدلوا بها أجولة مِن الحجارة والجلاميد.
***
راح الأستاذُ الجامعى الذى شارف على الستين يقهقه ساخرا مِن نفسه، مُتندرا بسذاجته المُفرِطة، فيما الجالسون يتجاوبون معه وقد مَرَ بعضهم بتجارب مُشابهة. كنت مِن الضاحكين فالمراجع الطبية التى لا زلت أحتفظ ببعضها هى مِن العينة ذات الصور المهتزة، والتفاصيل غير الواضحة، والرسوم المُتداخلة فى كثير من الأحيان.
تعلَمنا عند أداء الاختبارات صِغارا، أن نعطى أولوية للسؤال الذى يحظى بنسبة أعلى من الدرجات، وسمعنا حين كبرنا قليلا أن ما يحتاج البيت حرام على الجامع إذ كفاية البيت تأتى أولا، ثم فهمنا أن ترتيبَ الأولويات بما يُحقق النجاح سلوكٌ يستلزم ذكاء وحصافة، وقبل هذا وذاك يستوجب وجود رؤية ونِية صادقة لتحقيق تَقَدُم مَلموس فى الحياة بوجه عام.
***
أولوياتُ النظام الحاكم لا تعكس سِمة مما ذكرت. ثمة رغبةٌ مَحمومة فى إعلاء المظهرِ على الجوهرِ وفى تهميشِ ما يؤسس وعيا حقيقيا لصالح ما يصنع صخبا ويبرق. أولوياتُ النظام تتمثَل فى توفير أسمنت وحديد عاصمةٍ جديدة، وفى بذخ الاحتفال بتفريعة قناة السويس التى تحيط الشكوك بجدواها، وفى رفع ومُضاعَفة مُرتَبات بعضِ فِئات المُجتَمع التى لا تحتاج إلى مَزيد مِن الرفاهة. أولوياتُ النظامِ ليست للتعليم ولا للصحة، بل لاستعراض الوجاهة وصناعة مُعجزات وهمية ثم الإغراق فى التباهى بها.
***
هذا عن أولويات السُلطة، فماذا عن أولوياتنا كمحكومين؟ أظن أن بعضها قد تبدَل على خلفيةِ أوضاعٍ اقتصادية مُريعة وانحدارٍ سريع. أعرف بعضَ مَن انتموا يوما ــ غير بعيد ــ إلى الطبقة الوسطى فى مرتبتيها المتوسطة والعليا وقد اضطروا الآونة الأخيرة إلى سحبِ أبنائهم مِن المدارس الدولية ومدارس اللغات باهظة التكاليف؛ إذ لم يَعُد فى الإمكان بعد تدهور الأحوال أن يظلَ التعليم على رأس أولوياتهم. أعرف أيضا مَن انتقلوا عنوة وقسرا مِن فئةِ أَكَلَة اللحوم؛ حمراء وبيضاء، إلى فئة مُتَبِعى الحِميات الغذائية التى تعتمد أنظمة نباتية؛ إذ صار اللحمُ عصيا على الحضور فى الموائد بصفة مُنظمة.
أظن أن أولويات الطبقات الأدنى لا تتجاوز فى هذه اللحظة البقاءَ على قيد الحياة.