يعتبر اكتشاف برديات وادى الجرف اكتشاف القرن الـ 21 فى الآثار بامتياز!
بدأت البعثة الفرنسية بقيادة بيير تاليه العمل فى وادى الجرف منذ عام 2011. وكشفت عن آثار لميناء يعتبر الأقدم فى تاريخ الملاحة البحرية العالمية. وتم بناء الميناء على مساحة كبيرة. ومن خلال الأختام الطينية والبرديات والنقوش الصخرية التى تم اكتشافها فى هذه المنطقة، أمكن تأريخ هذا الموقع بعهد الملك خوفو صاحب الهرم الأكبر بالجيزة.
وفى عام 2013 عثرت البعثة على مجموعة رائعة من البرديات عند مدخل مغارتين. وكانت البرديات مدفونة بين الكتل الحجرية التى تم استخدامها لإغلاق المغارة بعد الانتهاء من العمل. وافترضت البعثة أن تكون هذه المغارات كانت تستخدم كورش عمل ومخازن وأماكن سكنية. ويذكر تالييه أن هذه البرديات تؤكد أن هذا الموقع كان مستخدمًا فى عهد خوفو، وأن فريق العمل الذى كان يعمل فى الموقع هو نفسه الذى عمل فى بناء الهرم الأكبر. فى رأيى، فإن هذا يشير للقدرة العالية للجهاز الإدارى للدولة فى عهد خوفو.
إن أجزاء البردى المكتشفة تعد الأقدم فى تاريخ الكتابة المصرية إلى الآن، ويصل عددها إلى حوالى 40 من برديات خوفو. والبرديات عبارة عن عدة مئات من قطع البردى بعضها يصل طوله لحوالى 80 سنتيمترًا. وهى أقدم برديات مكتوبة بالكتابة الهيراطيقية، وبها بعض أجزاء بالهيروغليفية مختصرة بتاريخ تعداد الماشية رقم 13 من عهد خوفو. وكان تعداد الماشية يتم مرة كل عامين، وهو يعنى أن التاريخ المذكور هنا هو العام 26 من عهد خوفو. ويظهر فى النص فى السطر الرأسى الأول «تعداد الماشية رقم 13»، واسم الملك الحورى فى السطر الثانى (مچدو)، ثم اسم الملك التتويجى «النسوبيتى»، «خنوم ــ خو ــ إف ــ وى»، يليه اسم فريق العمل فى الموقع، ثم يوميات العمل.
إن أغلب البرديات المكتشفة توضح توزيع الحصص اليومية للأطعمة التى كانت تستجلب من مناطق عديدة فى دلتا النيل. والنص الوارد على البردية من النوع المحاسبى؛ إذ يتناول عملية توزيع حصص الأطعمة والمناطق المجلوبة منها، وهى منظمة فى شكل جدول يظهر فيه اسم السلعة والمكان القادمة منه وكمياتها. وتظهر دون شك سيطرة الجهاز الإدارى على شئون البلاد بمختلف أنحائها وضواحيها بصورة مركزية ووفق تنظيم دقيق وواضح.
ومن أبرز البرديات المكتشفة فى وادى الجرف مجموعة قطع يزيد بعضها فى عرضه على 50 سنتيمترًا، تكتسب نصوصها أهمية كبيرة حيث إنها تقرير يومى بأنشطة أحد كبار الموظفين المسئولين من العاصمة منف، وهو مسئول عن أحد فرق العمل الفنية فى الموقع، وهو المفتش «مرر»، والذى كان يقود فريق عمل مكونًا من عدد كبير من الرجال. وأمدت البرديات بمعلومات عن ثلاثة أشهر من حياة «مرر» الوظيفية، مما جعلنا نعرف الكثير من الأمور عن حياة الموظفين فى عصر الأسرة الرابعة، ومنها قيام فريق العمل بنقل كتل الحجر الجيرى من محاجر طرة على الضفة الشرقية للنيل إلى هرم خوفو عبر نهر النيل وقنواته.
ونص البردية يظهر فيه الشهر فى شكل سطر كبير باعتباره عنوانًا، وتحته فى أسطر رأسية خطوط تمثل خانات تفصل بينها، تبدأ برقم اليوم، وتحته فى سطرين رأسيين، تقرير بالنشاط الذى أداه فريق «مرر» فى هذا اليوم. ويشير كثير من الأنشطة إلى أعمال مرتبطة بالأعمال الإنشائية فى الهرم الأكبر وعمليات قطع أحجار الحجر الجيرى الجيد من محاجر طرة والمعصرة والتى كانت تستخدم فى كسوة الهرم. وتشير اليوميات أيضا لتفصيلات ووصف لعملية نقل الكتل الحجرية من موقع المحاجر، «را ستاو الجنوبية» و«راستاو الشمالية» لمكان إقامة الهرم عبر نهر النيل والقنوات والترع المرتبطة به. وتشير نصوص البردية إلى أن هذه الكتل كانت تستغرق عملية تسليمها عدة أيام لمنطقة «آخت خوفو»، وهو اسم هرم الملك خوفو.
وتشير تقارير «مرر» لمرور معظم الإجراءات التنفيذية بمركز إدارى هو «را ــ شي ــ خوفو» والذى يبدو أنه كان مركزًا لوجستيًا تتوقف عنده فرق العمل قبل تسليم ما يحملونه فى منطقة هضبة الجيزة. وتشير النصوص إلى أن هذا المركز اللوجيستى كان تحت إشراف أحد كبار موظفى الدولة، وهو المدعو «عنخ ــ حاف»، وهو أخ غير شقيق للملك «خوفو»، وكان المشرف على كل الأعمال الملكية. وتؤكد هذه اليوميات أنه ربما كان يقوم بأعمال الوزير والمهندس المسئول عن المشروع القومى لإقامة الهرم فى مراحله الأخيرة. وبالتأكيد كان الهرم فى مراحل إنشاءاته الأخيرة مع اقتراب نهاية حكم الملك «خوفو». ويبدو أن ما يفسر وجود مثل هذه التقارير المهمة فى وادى الجرف أن نفس فرق العمل التى كانت تعمل فى البرامج الإنشائية للمقابر الملكية كانوا مسئولين عن مشروعات الدولة الأخرى، ومنها أعمال وادى الجرف. وربما كانت هذه الفرق الموجودة فى الموقع معنية بإحضار النحاس من مناجم النحاس بجنوب سيناء، وهو النحاس المستخدم فى تصنيع أدوات كانت تستخدم فى الأعمال الإنشائية بالهرم. ويعد ميناء وادى الجرف من أهم الموانئ فى مصر القديمة حيث انطلقت منه الرحلات البحرية لنقل النحاس والمعادن من سيناء إلى الوادى. وبعد ذلك قام «مرر» وفريقه بعملية غلق موقع الميناء ومغاراته بكتل حجرية ضخمة. وكان هذا فى العام الـ27 من حكم خوفو، وهو تاريخ يرتبط بتوقف أعمال استخراج النحاس والفيروز من مناجم جنوب سيناء، وربما يرتبط بتاريخ انتهاء الأعمال فى إنشاء الهرم.
وفى عام 2016 كشفت بعثة أثرية تابعة لوزارة الآثار عن وجود 21 مرساوات «مخطاف» وذراعين من الأحجار منتظمة الشكل عمرها والعديد من الأوانى الفخارية من عهد خوفو بالموقع. ويظهر أن المرساوات عليها مكان وضع الحبال التى كانت تستخدم فى ربط السفن حتى ترسو داخل الميناء، التى يحدها رصيف داخل مياه البحر الأحمر بطول 180 مترًا، وتأخذ شكل حوض للميناء لمواجهة الرياح الشمالية فى البحر الأحمر، بالإضافة إلى بعض الأوانى الفخارية.
وتكمن أهمية برديات وادى الجرف فى أنها تؤكد أن مشروع بناء الهرم الأكبر كان مشروعًا قوميًا، وأن الهرم بناه المصريون القدماء، وأن الهرم بنى مصر، كما تنفى أية ادعاءات كانت تتعلق ببناء الأهرام المصرية.