منذ أيام وتحديدا فى السادس عشر من سبتمبر 2018 كتب «بول كروجمان» الاقتصادى العالمى الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد للعام 2008 مقالا مهما فى دورية «نيويورك تايمز»، تناول خلاله علاقة الاقتصاد الكلى بالاقتصاد الجزئى، ثم أخذ يفند مزاعم التطبيقيين، وذلك النوع من الاقتصاديين الرياضيين الذين أغرقوا فى البيانات والنماذج الرياضية، مهملين النظرية الاقتصادية، وآلية عمل المنحنيات الشهيرة مثل ISــLM والتى تضع أساسا بسيطا للعلاقة بين أسعار الفائدة والناتج، ولا يكاد أى اقتصادى كلى يفهم أو يفسر التقلبات قصيرة الأجل فى معزل عن تلك الآلية، لكنه بالطبع يخفيها عن سطور ورقته العلمية المنشورة، لأنه ببساطة يخضع لشروط توافر أساس «جزئى» micro foundation فى ورقته كى يتمكن من النشر العلمى!
الأزمة هنا هى أن كثيرا من الاقتصاديين المحدثين يشكون فى بضاعة الاقتصاد، يصرون على إلقائها فى المعمل أو فى أحضان الرياضيات، حتى لا تتهم بالسطحية أو بكونها من البديهيات التى لا ترقى إلى مرتبة العلم المنضبط. «كروجمان» وغيره من الاقتصاديين الذين يوقرون الاقتصاد علما وأساسا لفهم الكثير من العلاقات الاجتماعية، يشككون فى البيانات، يعتقدون أنها لا تتكلم وحدها، وأنها تستنطق بفعل اختيار الفترات الزمنية للبحث، والمتغيرات المستخدمة فى التحليل، وإهمال فترات ومتغيرات أخرى كثيرة يمكن أن تعطى جانبا مهما من الحقيقة.
حينما عملت فى مركز معلومات مجلس الوزراء، عندما كان المركز يصدر الدراسات الاقتصادية لدعم اتخاذ القرار، كنت مسئولا عن وحدة للتنبؤ بسعر الصرف، وكان الإشراف الأكاديمى لأستاذ كبير هو الدكتور طارق مرسى صاحب الأوراق العلمية المؤثرة فى مجال الاقتصاد الكمى، وكنا نخضع بيانات سعر الصرف لتحليل دقيق، لكننا أبدا لا نفهم علاقات الارتباط والانحدار والسببية بمعزل عن النظرية الاقتصادية. لو أن النماذج الكمية التى بنيناها أخبرتنا بشىء خلاف ما أقرته النظرية، كان علينا أن نتوقف وننظر ونحلل، ونعيد معالجة البيانات مرارا حتى نخضعها للنظرية. وما كانت الأزمة العالمية فى عام 2008 وخسائر القطاع العقارى التى بلغت 7 تريليونات دولار وتداعيات تلك الأزمة على الاقتصاد الأمريكى ثم الاقتصاد العالمى كله، إلا اختبارا قاسيا لعلم الاقتصاد ولآراء وتحليلات الاقتصاديين. قليل من الاقتصاديين استطاع أن يلمح الفقاعة قبل أن تنفجر، لكن الاقتصاد الجزئى الذى يهتم بسلوك الأفراد والمؤسسات ويثبت أقطابه بتحيز ودأب غياب فروض نظريات الاقتصاد الكلى الشهيرة وأبرزها فرض الرشادة... كان الأكثر إخفاقا فى هذا الامتحان. حينما غرقت «ليمان برازرز» وتبعتها مؤسسات مالية وائتمانية كبرى وقف العالم كله يستحضر أزمة الكساد الكبير فى ثلاثينيات القرن الماضى، وقفوا يستشهدون بوصفات «كينز» ونظريات الاقتصاد الكلى، يلتمسون فى تفاعلاتها مخرجا واحدا من الأزمة، بعيدا عن أى نماذج كمية أو تفسيرات سلوكية فردية.
***
روعة علم الاقتصاد تكمن فى صورته الكلية، تفاصيله تنطوى على كثير من التناقضات، كونه علما إنسانيا فإنه يتغير وتتلون تفاصيله كلما نظرت إليها، لكن تظل الخطوط العريضة كما هى، صحيحة بصحة فروضها، تقرب لك واقعا تجعل فهمه يسيرا قدر المستطاع. لم أقرأ فى حياتى عن علم أثار الجدل بقدر علم الاقتصاد! هو علم مطعون فى أساسه العلمى كونه لا يشبه علوم المعمل الطبيعية، لكنه بعد ملاذ العامة والعلماء كلما تحركت رياح المعايش بغير ما يشتهون، أو كلما أرادوا أن يحرزوا سبقا لغنم أو يتجنبوا غرما... عندها يسألون الاقتصاديين أو هم يسألون عنهم وعن أحوالهم، يتندرون بفشلهم فى مساعدة الناس على تجنب الأزمات، أو تحقيق المنافع!
الاقتصاديون ليسوا حواة، ولا هم يعلمون الغيب، لكنهم يختلفون بشدة وتتناقض رؤاهم بالقدر الذى يجعلهم فى مجملهم على حق، لكنهم فرادى مخطئون، وهذا أيضا نزع إلى الصورة الكلية، فاختلاف الاقتصاديين وتباين مذاهبهم يجعل الصدق فيهم مؤكدا، غير أنه يكشف عورات الخطأ والجنوح كذلك. وإنك لا تعلم إذا ما كان الاقتصاد ينقاد إلى تحليل الاقتصاديين أو العكس! ففى علم الاقتصاد هناك نبوءات محققة لذواتها، وهناك أعلام فى مجال التحليل تصدق توقعاتهم بشأن ظواهر الاقتصاد، بفعل إيمان كتلة حرجة من الناس بصدق توقعاتهم واتساع علمهم ومعرفتهم. ربما كان انفجار الفقاعة العقارية وشيكا، وربما تكون لدى الكثيرين قناعة بهذا، لكن الصمت على المشهد ليس بالضرورة إغفالا أو جهلا، بل ربما كان بدافع الحرص على ألا تنفجر تلك الفقاعة إذا ما علم الناس بوجودها وباقتراب انفجارها، كونهم سوف يتصرفون بوعى وبغير وعى على نحو يعجل بهذا الانفجار. الصمت فى كثير من الأحوال حكمة، والفاعلون الاقتصاديون لا يفسدون كثيرا من التفاعلات الاقتصادية إلا بكثرة تناولها واللغط فيها. المشتقات المالية دليل صارخ على هذا، فعشية الأزمة المالية كنت أتحدث إلى نفر من بنك نيويورك، وكانوا يعرضون لى بفخر الزيادة الضخمة فى حجم قيد وتداول المشتقات المالية على الرغم من تعقيدها، وتطور علم الهندسة المالية على نحو جعل فهم ديناميات التعامل على تلك المشتقات حكرا على قلة من المتخصصين. لا أنسى أننى قلت لهم ضاحكا إن هذا النوع من المنتجات المالية مشروط نجاحه بعدم الفهم، وأنه لو لا قدر الله حاول المتعاملون الفهم الصحيح للمقابل الذى يحصلون عليه نظير التفريط فى نقودهم، لخرجوا من السوق مهرولين. الحكمة إذن أنك لا تنفك تشترى الأشياء التى يراها الكثيرون مربحة فتربح أكثر وتربح معهم، لكن صدمة ما تضرب الأسواق تخرج الكثيرين من غفلتهم، فينتبهون وتبدأ موجة البيع محملة بإشارات سلبية كثيرة تغذى بدورها موجات بيعية متتالية، فتنهار الأسواق ويخسر الجميع، فالناس نيام وإذا ماتوا انتبهوا، وفى حالتنا تلك إذا صدموا أو افتقروا انتبهوا.
***
أكتب تلك السطور ونحن على مشارف أزمة مالية عالمية جديدة، تتشكل فى الأفق، تنفخ فيها نعرات شعوبية، ودعوات حمائية، وتعاظم الديون، ونقص الناتج، وصراعات إقليمية، وتفسخ لكيانات إقليمية راسخة، وزيادة معدلات الفقر، والفشل فى التغلب على التحديات البيئية وفقا لمستهدفات قمم المناخ المتتالية على تواضعها! وانتشار الفقر المائى... لا يستقيم الثبات أمام تلك العوامل مجتمعة إلى تضافر الجهود الأممية، وترك الخلافات جانبا حتى تعبر هذه السنوات الصعبة بأقل الأضرار الممكنة. الاقتصاديون سوف يلعبون دورا مهما فى احتواء تلك الازمات، بل وإدارة مخاطرها قبل ان تتحول إلى أزمات، لو أنهم اعتلوا منابرهم، واحترموا اختلافاتهم، وأنصت الناس إليهم.
رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية
الاقتباس
روعة علم الاقتصاد تكمن فى صورته الكلية، تفاصيله تنطوى على كثير من التناقضات، كونه علما إنسانيا فإنه يتغير وتتلون تفاصيله كلما نظرت إليها، لكن تظل الخطوط العريضة كما هى، صحيحة بصحة فروضها، تقرب لك واقعا تجعل فهمه يسيرا قدر المستطاع.