دول إفريقية ثلاث هى جنوب أفريقيا وبوروندى وجامبيا أعلنت أخيرا عزمها الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية فى تطور غير مسبوق فى تاريخ المحكمة التى أنشئت بموجب معاهدة روما فى ٢٠٠٢، بهدف وضع «حد للإفلات من العقاب «لمرتكبى» أخطر الجرائم التى تثير قلق المجتمع الدولى بأسره».
صُدم أنصار المحكمة الجنائية الدولية من تبدل موقف جنوب إفريقيا ورئيسها جاكوب زوما، الذى انقلب على إرث القائد نيلسون مانديلا بما كان معروف عنه من سعيه لإنصاف ضحايا الانتهاكات الجسيمة على صعيد القارة وتأييده لمعاهدة روما.
من المرجح أن تصبح هذه المواجهة الإفريقية المتصاعدة بعد انضمام جنوب إفريقيا وهى الدولة المحورية على صعيد القارة، من العلامات الفارقة فى مسيرة المحكمة الجنائية الدولية بما قد يكون لها من تداعيات خطيرة.
أهم تلك التداعيات هو حجم ومستوى الانسحاب الإفريقى على غرار موقف جنوب أفريقيا. والأمر بالتأكيد يؤخذ بجدية من قبل المحكمة، على اعتبار أن أكبر تكتل إقليمى منضم لمعاهدة روما هو الأفارقة ــ ٣٤ من بين ١٢٤ دولة عضو. الانسحاب الجماعى إن حدث كفيل بأن يشل عمل المحكمة أو على أقل تقدير يسقط عن عدالتها صفة الكونية. فالمحكمة هى مؤسسة دولية مستقلة قائمة على معاهدة ملزمة فقط للدول الأعضاء فيها، وتعتمد على تعاونهم معها فى تسليم المطلوبين بارتكاب جرائم دولية. إذا غٌلت يد المحكمة وفشلت فى ملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم كبرى أو فى استكمال قضايا منظورة أمام قضائها كما هو حادث بالفعل، فلن يكون مصير هيئة الأمم التى نشأت فى عشرينيات القرن الماضى بعيد عنها، والتى حللت محلها الأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية فى ١٩٤٦.
تطرح قضية الانسحاب الإفريقى من المحكمة ثلاثة مستويات للنقاش: أولا فيما يخص أسباب تردى العلاقة بين الأفارقة والمحكمة، ثانيا ما إن كان منطق العدالة الجنائية الدولية القائم على نموذج محاكمات نورمبرج يصلح لإفريقيا، وأخيرا نوضح كيف أن الانسحاب الإفريقى من المحكمة، هو ذاته تجسيد للحظة تهاوى منظومة حقوق الإنسان العالمية وأفول نجمها فى الوقت الراهن.
***
دول إفريقية عدة تتهم المحكمة بالانحياز ضد القارة السمراء وبممارسة عدالة انتقائية وسياسية. الممارسة الفعلية لقضاء محكمة لاهاى يعطى هؤلاء فرصة للخصومة: فالمحاكمات الثلاث الجارية حاليا تخص ملفات إفريقية، إضافة إلى تسعة من بين عشرة تحقيقات رسمية وأربعة تحقيقات أولية أخرى.
رد المحكمة بأنها محايدة وأنها تعمل من أجل الضحايا، والضحايا فى الحالات المنظورة أفارقة، وأن ولايتها مقيدة بما تمليه معاهدة روما، أضحى جوابا غير شاف لكثيرين فى الوقت الراهن. خصوم المحكمة يتساءلون كيف تدعى المحكمة الجنائية بأن عدالتها كونية، وهى يدها مغلولة تماما إزاء أزمات دولية مثل الفظائع الحادثة فى سوريا، التى وصفها مفوض الأمم المتحدة السامى لحقوق الإنسان زيد رعد الحسين بأنها «العنوان الكبير الذى يصف عصرنا فى مجال حقوق الإنسان»؟.
ساءت العلاقة بشكل كبير بين دول القارة ومحكمة لاهاى مع فشل الأخيرة فى استكمال أهم قضيتين منظورتين أمامها: محاكمة الرئيس الكينى أوهورو كينياتا المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية فى أحداث العنف عقب انتخابات 2007 فى كينيا، ومحاكمة الرئيس السودانى عمر البشير، الذى كانت المحكمة قد أصدرت ضده مذكرة اعتقال بتهم تشمل جرائم الإبادة الجماعية فى إقليم دارفور فى 2009.
قاد الاتحاد الأفريقى حملة ضد المحكمة على مدى سنوات وحث أعضاءه على رفض طلب تنفيذ إلقاء القبض على البشير على اعتبار أن الرؤساء يتمتعون بحصانة، وهو ما لا يعترف به النظام الأساسى للمحكمة. كما رفضت اتهامات المحكمة الموجهة للرئيس الكينى. وفى عدد من القمم هدد القادة الأفارقة بالانسحاب بشكل جماعى من معاهدة روما. وخلال قمة الاتحاد فى غينيا الاستوائية منح القادة الأفارقة أنفسهم حصانة من الملاحقة القضائية فى الجرائم الكبرى أمام المحكمة الأفريقية لحقوق الانسان والشعوب بعد توسعة ولايتها.
العلاقة المتوترة قد تدفع مجددا المدعى العام الخاص بالمحكمة إلى مراجعة بعض السياسات، بما فى ذلك أين يفتح تحقيقاته (وهذا قد بدأ بالفعل)، ومستوى الاستهداف: بمعنى هل سيمثل نموذج الفشل فى محاكمات البشير وكينياتا الاستثناء أم القاعدة فيما يتعلق بملاحقة الرؤساء؟ وثالثا مراجعة مدى تأثير قرارات المدعى العام على النزاعات الأهلية الدائرة.
***
أثارت بريتوريا مجددا فى خطاب انسحابها الموقف الخلافى بين أنصار وخصوم المحكمة الجنائية فيما يتعلق بمتطلبات السلام ومتطلبات العدالة وإن كانا مكملين لبعضهما أم متضادين. أوضحت أن التزامها كعضو مؤسس فى الاتحاد الإفريقى، بإيجاد حلول سلمية للنزاعات يتعارض فى أحيان مع تفسيرات المحكمة الجنائية فيما يتعلق بالتزامات الدول الأعضاء فى معاهدة روما. مفهوم بالطبع أن بريتوريا اتخذت من هذا الموضوع الشائك تكئة للانسحاب، بعد أن أعيتها انتقادات لاهاى والملاحقات القضائية المحلية عقابا لها على موقفها بتيسير خروج الرئيس البشير بدلا من القبض عليه وتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية إبان زيارته الأخيرة لها.
على الرغم من ذلك فالموضوع المُثار له أهميته كونه يُشكك فى منهج العدالة الجنائية الدولية المبنى على نموذج محاكمات نورمبرج ــ عدالة المنتصر ــ كأساس يصلح لإنهاء مشاكل العنف الجماعى، كما الحال فى كثير من الحروب الأهلية بأفريقيا. التحول الذى شهدته جنوب أفريقيا قبل ثلاثة عقود من الحرب إلى السلم هو ذاته أكبر دليل على إمكانية التحول بتبنى مفاهيم للعدالة مغايرة لنموذج نورمبرج. فلولا مفاوضات كوديسا التمهيدية 93ــ91، التى كانت قد وضعت أسس إنهاء نظام الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا، ما كانت الحرب قد انتهت. هذه المفاوضات قد نَحَت جانبا المسئولية الجنائية لقادة نظام الفصل العنصرى، وكان أساسها العفو مقابل تفكيك البنية السياسية والقضائية للنظام العنصرى هناك. المحاكمات التى عقدت بعد ذلك فى إطار عمل مفوضية الحقيقة والمصالحة كانت محدودة الطابع.
التشكيك فى منهج العدالة الجنائية الدولية كأساس لتسوية النزاعات، استغله الرئيس الكينى كينياتا، فى إدارة حملة ناجحة ضد المحكمة الجنائية خلال انتخابات الرئاسة التى فاز بها فى 2013. كينياتا أخاف ناخبيه من الفوضى، واعتبر أن المحكمة تستهدف الثأر منه وتسعى إلى تقويض الانتقال الديمقراطى السلمى الحادث فى كينيا.
***
انسحاب الأفارقة تباعا من المحكمة الجنائية هو بمثابة تسجيل موقف من عصرنا الذى يشهد ترديا بالغا لحالة حقوق الإنسان فى العالم. شتان الوضع اليوم مقارنة بالتسعينيات، التى شهدت لحظة ميلاد جديد لمنظومة حقوق الإنسان فى العالم فى أعقاب انتهاء الحرب الباردة وسقوط حائط برلين.
انطلقت بخطى واثقة منظومة حقوق الإنسان العالمية وتشعبت آلياتها الأممية فى أعقاب المؤتمر العالمى لحقوق الإنسان فى ١٩٩٣، الذى شهد توافق الدول الأعضاء حول قضايا السياسة الشائكة: السيادة ــ الكونية ــ محاربة الإفلات من العقاب ــ إنصاف الضحايا. سجلوا توافقهم فى بيان فيينا القوى وبرنامج عمل طموح.
فى تلك الفترة خرجت إلى النور المحاكم الجنائية الدولية والمختلطة وصولا فى لحظة توافق دولى نادرة فى ٢٠٠٢ إلى المحكمة الجنائية الدولية. رفضت دول مثل أمريكا وروسيا والصين وإسرائيل الانضمام إلى معاهدة روما. مع ذلك تعلقت آمال كبيرة بالمحكمة لإنصاف ضحايا الانتهاكات الجسيمة فى العالم وتطبيق حكم القانون.
ولكن أين نحن اليوم من حكم القانون؟
للأسف نحن نعيش عصر صعودٍ سافرٍ للزعامات الشعبوية المعادية لحقوق الإنسان وحقوق المهاجرين والمسلمين. دونالد ترامب المرشح الجمهورى فى انتخابات الرئاسة الأمريكية هو خير مثال على ذلك. نحن نرى الولايات المتحدة منخرطة بلا هوادة فى حروب مفتوحة فى الشرق الأوسط وأفغانستان، ونرى روسيا ترتكب جرائم ضد الإنسانية يوميا فى سوريا دون أن يحرك أحد ساكنا. نحن فى عصر تدير فيه أوروبا ظهرها لمواثيق حقوق الإنسان وتُغلق أبوابها فى وجه ملايين المهاجرين واللاجئين الفارين من جحيم بلادهم.
الوضع فى ٢٠١٦ والذى يجسد أحد معالمه هذا الانسحاب الإفريقى من المحكمة، هو لحظة تهاوى لمنظومة حقوق الإنسان وأفول نجمها. جنوب أفريقيا بانسحابها من المحكمة الجنائية تدير ظهرها لتاريخها الحقوقى الناصع، وتسير فى فلك حلفائها الجدد فى مجموعة ال BRICS روسيا والصين، بما هو معروف عنهما من رفض لفكر «عالمية» حقوق الإنسان، حتى وإن انضمتا لكثير من المعاهدات الدولية الخاصة بها.
بالأمس قال الخبراء إن على المحكمة الجنائية أن تُصلح نظامها الداخلى قبل أن يلفظها أعضاؤها، أما اليوم فالمطلوب من القوى الكبرى المسئولة عن حفظ السلم والأمن العالميين أن تعيد الاعتبار لحقوق الإنسان قبل مطالبة الأفارقة دون غيرهم بإصلاح ما فى بيتهم وقبل فوات الأوان.