أغارت مقاتلات بريطانية على حقول نفطية فى شرق سوريا بعد ساعات قليلة من موافقة مجلس العموم البريطانى على طلب الحكومة بتوسيع نطاق ضرباتها الجوية الموجهة ضد داعش من العراق إلى سوريا. وقد احتفت الصحافة البريطانية بهذا التحول من الحذر إلى موقف غير محسوب العواقب ونقلت عن وزير الدفاع مايكل فالون ودون أى تدقيق قوله «لقد وجهنا ضربة حقيقية للنفط وعائداته التى تعتمد عليها داعش الإرهابية».
المضمون الأعمق الذى نقرأه من تصويت مجلس العموم هو أن رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون قد حصل على تفويض واسع فى إطار ما يسمى بمكافحة الإرهاب، للمشاركة فى صيغة جديدة من صيغ التدخلات العسكرية الغربية المستمرة بلا هوادة فى أفغانستان والشرق الأوسط منذ عام 2001.
هذه التدخلات سواء كانت: غزوا، تدخلا عسكريا إنسانيا، دفاعا عن النفس (فرديا أو جماعيا)، مكافحة إرهاب ــ تنطوى فى مجملها على مصالح استراتيجية وعسكرية كبيرة للدول الغربية المشاركة فيها، ولا تتراجع أمام مصائب تفكك الدول أو قتل ملايين الأبرياء.
هذه التدخلات باتت مصدر إنعاش للصناعات العسكرية الغربية كما توفر أسواق لتصدير سلاحها والحصول على عقود تدريب واستشارات أمنية.
***
نلاحظ فى حالة بريطانيا تحديدا توسعا فى إنشاء قواعد عسكرية بالخليج (قطر ــ البحرين ــ الكويت ــ الإمارات ــ عمان) وهو ما حدا بمركز أبحاث بريطانى مرموق وهو المعهد الملكى للقوات المتحدة فى تقرير صادر عنه فى 2013 التساؤل ما إذا كان هذا التواجد استراتيجيا ودائما؟ وإن كانت بريطانيا بهذا الوضع تراجع قرارها إبان حقبة الستينيات بالانسحاب من «شرق السويس».
بريطانيا بالتأكيد تطمح إلى ملء الفراغ الاستراتيجى والعسكرى الناجم عن انحسار الاهتمام الأمريكى بمنطقة الخليج وتوجهه نحو دول آسيا والمحيط الهادى. ونذكر هنا قول رئيس أركان الجيش البريطانى السابق السير ديفيد ريتشاردز فى 2013، «بعد أفغانستان سنحول جهدنا العسكرى الرئيس نحو منطقة الخليج». وتتوافق الرغبة البريطانية فى تقديم نفسها كدرع واقية مساهمة فى حماية منطقة الخليج مع رغبة دول هذه المنطقة فى تعزيز أمنها، خاصة مع حالة القلق الهائل من تمدد النفوذ الإيرانى ومن تبعات الثورات العربية، وهو ما حدا بها إلى زيادة هائلة فى إنفاقها العسكرى. وقد رصدت منظمة الشفافية الدولية أن مجمل الإنفاق العسكرى وصل فى العام الماضى فى سبع عشرة دولة عربية إلى أكثر من 135 بليون دولار أى ما يوازى 7.6 بالمئة من مجموع الإنفاق العسكرى فى العالم. وحذرت المنظمة من أن التعاقدات العسكرية والأمنية فى معظم الدول المذكورة يلفٌها السرية وينقصها الشفافية مما يفتح مجالا واسعا للفساد والإفساد. ولنتذكر هنا أن كما كبيرا من أسلحة داعش قد حصلت عليه بعد سقوط الموصل وفرار الجيش العراقى (الذى دربته الولايات المتحدة) وبعد معارك كثيرة مع الجيش السورى.
***
التدخلات العسكرية المستمرة فى منطقتنا منذ غزو العراق فى 2003 أدخلت المنطقة فى دائرة جهنمية مفرغة. فهى من جهة باتت حروبا مفتوحة انتعشت فى إطارها مصالح استراتيجية باسم مكافحة الإرهاب ومن جهة ثانية ساهمت فى تحويل هذه البلدان المستهدفة (العراق ــ ليبيا – سوريا ــ اليمن ــ الصومال) إلى بلدان فاشلة وساحات حاضنة للإرهاب (القاعدة وداعش) الذى اكتوت بناره المنطقة العربية والدول الغربية المنخرطة فى هذه التدخلات.
هذه التدخلات العسكرية تسوق بإيهام أنها «نظيفة» أى تدار من الجو دون مخاطرة بحياة قواتهم النظامية، و«ذكية» أى تفتك بالإرهابى دون المدنى، وشرعية أى تدار وفق ميثاق «الحرب العادلة»، وهى خديعة كبرى يشارك فى الترويج لها خبراء «الأمن» و«مكافحة الإرهاب» فى كثير من وسائط الإعلام الغربى. أغلب هذه التدخلات العسكرية فى حقيقة الأمر يدار بغير تفويض من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع (العراق 2003)، أو خارج عن سياق التفويض (ليبيا / قلب نظام حكم القذافى 2011)، كما يعتمد على قراءة واسعة فى تفسير حق الدفاع عن النفس، بما لا يتفق مع القيود التى وضعها القانون الدولى كما ورد بالأساس فى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
وهى تقدم لمواطنى تلك الدول المنخرطة فيها على أنها ضرورة ملحة لحماية الأمن القومى ودحر الإرهاب (القاعدة ومشتقاتها، داعش، جبهة النصرة) وللدفاع عن مبادئ الحضارة الغربية.
***
والملاحظ فى الحالة البريطانية أن يد كاميرون كانت مغلولة بعض الشىء قبل الهجمات الإرهابية لداعش فى باريس فى 13 نوفمبر والتى أسفرت عن سقوط 130 قتيلا. مجلس العموم كان قد رفض له طلبا فى 2013، للمشاركة فى تحالف جوى غربى موجه ضد الرئيس السورى بشار الأسد عقب استخدام السلاح الكيماوى ضد شعبه. ثم كان له ما أراد فى 2014، بأن شاركت بريطانيا جويا فى استهداف داعش فى العراق ضمن التحالف الدولى بقيادة الولايات المتحدة، وذلك بعد طلب من الحكومة العراقية فى إطار حق الدفاع الجماعى عن النفس بموجب ميثاق الأمم المتحدة.
بعد الإرهاب الذى طال باريس والذى اعتبره أولاند «فعل حرب» يجب الرد عليه عسكريا، طلب الرئيس الفرنسى من دول الاتحاد الأوروبى دعما عسكريا موجها ضد داعش.
تلقف رئيس الوزراء البريطانى هذا الطلب بكثير من الترحيب والانتهازية السياسية لرغبته فى توسعة التدخل العسكرى البريطانى فى المنطقة تحت مظلة مكافحة الإرهاب. وقد جاء إلحاح كاميرون على طلب موافقة مجلس العموم فى توقيت مواكب لصدور التقرير الاستراتيجى للدفاع والأمن والذى يوضح عزم الحكومة زيادة الاستثمار فى معدات الدفاع العسكرى بقيمة 269 بليون دولار خلال عشر سنوات. التقرير يعطى دلالة عند حزب المحافظين الحاكم على أهمية الربط بين الاستثمارالعسكرى والحرب كأداة لخدمة المصالح الاستراتيجية البريطانية.
لعبت حالة الصدمة التى انتابت الشعب البريطانى بعد أحداث باريس دورها فى نقل رد الفعل من التعقل إلى خوف يؤججه خطاب سياسى هيستيرى. هذا الخطاب تعامى عن تعقيدات الوضع السورى، وأخذ يحرض على توسعة مواجهة داعش عسكريا دون أدنى اعتبار إلى الكوارث التى نجمت عن تلك التدخلات المستمرة والتى من رحمها خرجت داعش ذاتها.
***
نجح رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون بعد خطاب تعبوى أكثر منه استراتيجى، فى اقتناص موافقة مجلس العموم بأغلبية 397 صوتا مقابل 223 لصالح توسعة الضربات الجوية الموجهة ضد داعش فى سوريا. ولم يفت رئيس الوزراء أن يتهم خصمه المناهض للتدخل العسكرى جيرمى كوربن رئيس حزب العمال بأنه «متعاطف مع الإرهابيين».
تعرضت رئاسة كوربين لحزب العمال لهزة شديدة جراء هذا التصويت بمجلس العموم، بعدما انحاز 67 عضوا من أعضاء حزبه إلى جانب المحافظين ولصالح التدخل العسكرى، بالمخالفة لرأى رئيس حزب العمال. كان من أبرز هؤلاء الخارجين على الانضباط الحزبى هيلارى بن وزير خارجية الظل.
مع ذلك يظل موقف كوربين هو الأصوب فى معارضة الحرب. فقد امتلك الشجاعة ليذكر كاميرون والحضور بأن شبح العراق وأفغانستان يلوح فى أفق نقاش مجلس العموم، محذرا من أن خطة كاميرون التى وصفها بـ«المتهورة وغير المدروسة» تزيد من فرص إرهاب داعش ضد القوات البريطانية والداخل البريطانى.
كوربين كان من القلائل أيضا الذين استحضروا الشعب السورى فى نقاش مجلس العموم، مذكرا بأن الضربات الجوية المرتقبة قد تقتل مدنيين يعيشون تحت قبضة داعش. لكن للأسف أغرق صوته لأن المجلس انصاع وراء المطبلين للحرب لاسيما النائب العمالى هيلارى بن الذى ألقى خطابا ديماجوجيا عالى النبرة، قليل المحتوى.
كوربين سيظل شوكة فى خاصرة «الدول العميقة» فى بريطانيا بمؤسساتها العسكرية والأمنية، وذلك بسبب مواقفه المتجاوزة للخطوط الحمراء لهذه المؤسسات، مثل مناهضته لتحديث أسلحة الترايدانت النووية وتساؤلاته حول جدوى مساندة الحروب الأمريكية المفتوحة على العالمين العربى والإسلامى دون مراجعة.
الفارق الجوهرى بينه وبين رئيس الوزراء هو أن كاميرون وراءه هذا اللوبى الداعم للتدخلات العسكرية. هذا اللوبى يرى أن «أخطاء» غزو العراق عفا عليها الزمن ويجب ألا تقف عقبة فى وجه تدخلات جديدة. بهذا المعنى يعمل كاميرون من وراء الكواليس على تعطيل خروج تقرير القاضى تشيلكوت عن غزو العراق والدروس المستفادة، وهو حتى إن خرج إلى النور لن يرتب أى مساءلات عن وقائع غزو العراق.
من هنا وإلى أن يثبت صواب تحذيرات كوربين من فشل التدخلات العسكرية الغربية فى تحقيق السلم والأمن، سيظل ينظر له على أنه «خطر على الأمن القومى»، كما وصفه كاميرون قبل نجاحه فى اعتلاء منصب رئيس حزب العمال المعارض.