فى أشهر الصيف الرطبة لا يتوقع البريطانيون إثارة أكثر من تلك التى اعتادوها خلال متابعتهم لنهائيات سباق التجديف الشهير على نهر التايمز بين فريقى إكسفورد وكامبريدج العريقين ومباريات التنس فى بلدة ويمبلدون الشهيرة. ولكن السياسة فاقت فى إبهارها هذا الصيف هذين الحدثين السنويين. بعد صدمة البريطانيين بالنتائج الكارثية للتصويت بالخروج من الاتحاد الأوروبى فى الاستفتاء الذى جرى حول هذا الموضوع، صدر بعد سبع سنوات انتظار تقرير التقصى الرسمى (لجنة تشيلكوت) عن قرار وملابسات مشاركة بريطانيا فى حرب العراق فى 2003.
***
لجنة تشيلكوت امتنعت عن الإجابة عن السؤال الجوهرى حول مشروعية غزو العراق ــ دولة ذات سيادة، لم تمثل أى تهديد لبريطانيا. معرفة الدروس المستفادة كانت حدود عمل هذه اللجنة غير القضائية، بناء على مذكرة تكلفها فى عهد حكومة جوردون براون خليفة بلير، الذى صوت لصالح الحرب فى 2003، والذى يفترض من خلفيته أنه سعى لحماية رئيسه السابق مع مراعاة تقاليد مؤسسات الحكم البريطانية. التفاهمات كانت على الأرجح باحترام السقف بعدم إدانة بلير بالكذب أو تضليل البرلمان كى لا يحاسب فى سابقة قد تغل يد أى رئيس وزراء قادم فى الموافقة على تدخلات عسكرية لا يجيزها القانون الدولى.
فى حدود ذلك تمحورت الأسئلة التى أجاب عنها التقرير حول ما إذا كان قرار الغزو ضروريا وصائبا فى مارس 2003، وهل كانت بريطانيا مستعدة لتبعات ما بعد الغزو. الإجابة فى الحالتين جاءت بتوجيه النقد العنيف لبلير ولحكومته وللبرلمان وللمدعى العام الذى بدل مشورته القانونية عدة مرات حول مشروعية الغزو فى 2003، ونصح بعدم ضرورة إصدار قرار جديد من مجلس الأمن بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية.
التقرير الذى جاء فى أكثر من ستة آلاف صفحة يحتوى على كنز من المقابلات والوثائق الرسمية وبالذات فيما يخص المراسلات السرية بين بلير وبوش قبل وخلال الحرب، والتى تنشر لأول مرة.
«سأكون معك.. أيما يحدث»، هى إحدى الرسائل الخاصة التى أرسلها بلير لبوش قبل ثمانية أشهر من بدء الغزو. هذه الكلمات ستلاحق بلير إلى الأبد، وتصلح كما قال أحد المعلقين الإنجليز، لأن تحفر كشاهد على قبره. بلير بخلفيته الدينية العميقة كان لديه قناعات مثل بوش بأن الله يخاطبهم ويبارك تدخلاتهم العسكرية من أفغانستان إلى العراق ضمن منظومة هم جنودها فى حرب دينية\ أخلاقية، لابد أن ينتصر فيها الخير على الشر. بهذه الخلفية لم يكن مستغربا مدى توافقه مع بوش فى اعتبار صدام شرا خالصا وأن إزاحته عن الساحة «هو الفعل السليم الذى يجب عمله»، كما كتب فى إحدى رسائله السرية لبوش أثناء التخطيط للغزو. كانت تلك هى قناعة بلير حتى مع إفصاحه لبوش فى نفس البرقية السرية بأنه «ليس واثقا من دعم البرلمان والحزب والرأى العام أو حتى بعض أعضاء حكومته!».
نصح بوش بأن يسلك الحل السلمى بالتوجه إلى مجلس الأمن كمحاولة أخيرة قبل بدء الغزو، ولكن بلير فى النهاية لم يستمع للشعب البريطانى الذى خرج فى مظاهرات عارمة ضد الغزو، وصم أذانه ضد معارضيه (139 نائبا من حزبه صوتوا ضد التدخل العسكرى فى مارس 2003)، وأدار ظهره إلى حلفائه الأوروبيين. فضل الإنصياع خلف مشروع بوش والمحافظين الجدد النيوــ إمبريالى الذى بدأ بتدمير العراق فى مسعى حثيث إلى إعادة تشكيل نظام شرق أوسطى جديد، تكون توجهاته يمينية نيو ليبرالية ومبتغاه الأسواق المفتوحة تحت الهيمنة الغربية.
قناعات بلير كما وصفها أحد المقربين منه «لا يوجد فيها خط فاصل بين السياسة والأخلاق». بلير نفسه أكد ذلك المعنى فى مجلة فورين بوليسى فى 2007 بقوله، إن الهدف من وراء هذه التدخلات العسكرية هو «العمل على تغيير النظم الأخلاقية الحاكمة فى هذه المجتمعات إلى جانب تغيير الأنظمة». «الفوضى الخلاقة» بالنسبة لهؤلاء من أمثال بوش وبلير ومستشارة الأمن القومى الأمريكى السابقة كواندليزا رايس ما هى إلا إعادة ترتيب البيت فى الدول المتلقية لتلك التدخلات العسكرية على أسس فلسفية واقتصادية خاضعة للهيمنة الغربية.
فوضى وقد كانت، ولكنها فوضى تدميرية. أهل العراق ليسوا حيارى تجاه توصيف ما حدث أو المطالبة بمحاكمة بوش وبلير على اقترافهما جرائم حرب لاسيما «جريمة العدوان» على وطنهم. أهل العراق بأحيائهم وأمواتهم يشهدون على أن نسائم «الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان» التى وعدوا بها مع «حرب التحرير» من نظام صدام كانت أكذوبة، وأن ما فتح عليهم هو أبواب جهنم مع الاقتتال الطائفى ومجىء القاعدة، ومن بعدها داعش وجنون العمليات الانتحارية.
***
وثق تقرير لجنة تشيلكوت بأدلة قوية كيف زج بلير ببريطانيا فى حرب «اختيارية»، لم تكن «خيارا أخيرا»، بل حدثت كما أكد التقرير، قبل أن تستنفذ كل الوسائل السلمية لنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، وعلى قاعدة معلومات استخباراتية «مغلوطة» بشأن تلك الأسلحة. وقال رئيس اللجنة السير جون تشيلكوت إن الأحكام التى أطلقها بلير لتبرير الغزو قد قدمت «باعتبارها مؤكدة دون وجود ما يبرر ذلك».
النتائج التى خلص إليها تقرير اللجنة ورئيسها كانت دامغة بحق بلير. تشيلكوت وهو يعرض أوجه القصور التى شابت الإعداد للغزو من قبل حكومة بلير، أكد أنها «فشلت فى تحقيق أهدافها المعلنة». كما انتقد التخطيط والتدابير لفترة ما بعد الحرب باعتباره «غير مناسب على جميع الأصعدة». ولم يكتفِ التقرير بمراجعة أداء الحكومة بل انتقد المدعى العام اللورد جولد سميث بعد مراجعة الملابسات، التى نتج عنها تغيير مشورته القانونية ثلاث مرات، وبما قد يوحى أنه لم يكن يعمل باستقلالية.
عقب الإفصاح عن نتائج لجنة تشيلكوت انبرى بلير فى دفاع هزيل عن هلاوسه بأن العراق بات أفضل الآن من دون صدام حسين وأن العالم أصبح أكثر أمنا. المؤسف حقا أن الجدل القائم حول إمكانية محاكمة بلير على قراره بغزو العراق يبدو محصورا فى عالم افتراضى ومحيط ضيق، بينما فى العالم الحقيقى، يعد بلير الأنجح مقارنتة بكل رؤساء وزراء بريطانا السابقين فى جنى المال والمناصب الدولية الرفيعة بعد تركهم السلطة. دمر العراق فكوفىء بتعينيه مبعوث الرباعية للسلام فى شرق الأوسط. تلقفه عالم المال والبيزنس لتقديم استشارات بالملايين وقربه قادة ديكتاتوريين أمثال رئيس كازاخستان نور سلطان نزارباييف الذى دفع 13 مليون دولار طلبا لمشورته. رسول النيو ليبرالية قدم إلى مصر أيضا لينصح القائمين على أشباه دولتنا بشأن «الإصلاح الاقتصادى»، فى مهمة يمولها صندوق سيادى فى إحدى دول الخليج. أليست هذه السيرة الذاتية هى ترجمة فجة لما تعنيه عدالة المنتصر؟
وبالرغم أن لجنة تشيلكوت قد أحجمت عن إدانة بلير فى إطار تكليفها كما أسلفنا الذكر، فإن محتوى التقرير لم يكن باهتا أبدا مقارنة بتقريرين سابقين عن حرب العراق. قدمت لجنة تشيلكوت فى تقريرها ما قد يعد حيثيات إدانة كاملة لبلير ولحكومته قبل وخلال وبعد غزو العراق.
أهل العراق ينتظرون العدالة الناجزة فى محكمة قضائية مستقلة وعادلة بدلا من العبث الحالى المتمثل فى إفلات الأقوياء من العقاب.
لننتظر ماذا سيفعل بتقرير لجنة تشيلكوت الناشطون والمحامون البريطانيون وأسر الضحايا المدنيين من العراقيين والجنود البريطانيين الـ197، الذين قضوا فى هذه الحرب المجنونة التى ما كان لها أن تقوم.