«أنت مكسور الخاطر»... عن الراحة النفسية فى الغربة - مواقع عربية - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 6:47 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«أنت مكسور الخاطر»... عن الراحة النفسية فى الغربة

نشر فى : الإثنين 1 نوفمبر 2021 - 8:55 م | آخر تحديث : الإثنين 1 نوفمبر 2021 - 8:55 م

 

نشر موقع رصيف 22 مقالا للكاتب يزن كلش، وصف فيه شعور المغتربين والمغتربات السوريات فى الغربة وأبرز ما يؤرقهم، كما ذكر أهم الدروس التى تعلمها من غربته... نعرض منه ما يلى.
لم أحلم بها، ولم أكن أنتظر الحالة التى ينتظرها الناس بقوّتهم كلها. هى حالة عاشرتها، واندمجت معها، طوال أيام حياتى، ولكن دون أن أطلبها، أو يدفعنى إليها أحد. هى شىء يخالف القاع، وبعيد تماما عن هذا المفهوم، أتوقع أنه النقيض من تلك الكلمة.
فى بحثى عن كلمة المستنقع، أو القاع، تعددت المفاهيم حول ما تم العمل عليه من ترجمات، ومجلدات تاريخية توثيقية، تدلّ على الفكرة التى بحثت عنها. لكن، فى نهاية المطاف، وجدت تفسيرا مختلفا عما كنت أنظر إليه، ألا وهو ترجمة بعيدة تماما عن ثقافتى، وجاءتنى، وأنا بعيد عن بلد عشت فيه 28 عاما، تقول لى إنى مريضٌ نفسىُّ!
هل بالفعل أنا مضطرب؟ كنت أرفض الحديث عن هذا الموضوع، وأذمَّ كل من كان يقول لى إننى أعانى حقا من تلك الأمور التى كانت تمرّ بى، خلال السنوات الماضية، والتى قضيتها فى الحرب. وبالفعل، اتّبعت الناس فى مكانى الجديد، لأسمع منهم، وأقبل أى كلمة توجَّه إلىَّ، بحكم عدم معرفتى بالمكان، وأن شروطى لا مكان لها من الإعراب.
قبلتُ، ورضيتُ، وسمعتُ أنى لا أعانى من مرض نفسى، بل من تراكمات الحرب، التى لم تدعنى والسوريين والسوريات جميعهم، من غير ندوب طالت أرواحنا، أعمق مما لو أنها بقيت فى الأجساد فحسب.
•••
«اسمع... أنت مكسور الخاطر»؛ قالها لى من دون أن أشعر بوخزة تحرقنى، أو تشعرنى بالقلة، وعلمت أن الخواطر لا تُجبَر بالمال فحسب، بل بالكلمة الطيبة، وكانت هذه فرحةً لكل مغتربة ومغتربٍ ترك ما كان عليه، ليصل إلى الضفة الثانية من الحياة التى يعيشها الناس ببساطتها، أو على الأقل ببساطة الخدمات التى فيها، ليركّزوا على ما يريدون أن يفعلوا، فحسب.
قد تكون نظرتنا، نحن الأغراب، طوباويةً شيئا ما، بالنسبة إلى السكان الأصليين، إذ نراهم بلا هموم، ولا تعب، ولا حرب، وأننا نحن الوحيدون من نعانى، ولا أحد سوانا. غالبا، هى نظرة من خارج الصندوق، إذ جعلتنا الحياة فى بلدنا الأم، نبحث كثيرا، ونتمنى، ونسعى جاهدين للوصول إلى كل الأشياء معا، ومن بينها الخدمات.
وهنا، فى بلد اغترابنا، نجد أن كل شىء متوفر، فلا حاجة إلى السؤال عما يؤرّق الناس، ويتخوفون منه، وهذا ما شكّل معضلةً لى فى الفترة الأولى. ثم تعلّمت الدرس الثانى، ألا وهو أن الهموم تلاحق البشر أينما حلّوا، وهم يتماشون مع الواقع، حتى يغدوا متجانسين فى ما بينهم، وتصبح بعد ذلك عبئا عليهم، وتمنعهم من البحث، والمضى فى هذه الحياة.
أما الدرس الثالث الذى تعلّمته، فهو عدم البقاء متخوفا من محيطى. «نعم أنت تضحك، لكنك تخفى الكثير خلف هذه الابتسامة»؛ جملة قالها لى أحدهم، عندما كنا نتحدث عن الوضع الاقتصادى فى سوريا. وبعد أن وقعت جملته على مسمعى، ارتبكتُ، واختفت الضحكة من فورها، وأجبته: «فى الحقيقة أنا لا أخفى شيئا، ولكنى جديد على الحياة هنا».
لم يعلّق صاحبى الجديد على إجابتى، ورمقنى بنظرة العارف، ومضى إلى مكتبه ليتابع أعماله، وتركنى فى حيرة البحث عما يمكن أن يدور من حولى، وهل أخاف من الناس؟ أو ربما هل يشون بى لأمور لم أفعلها؟ هل هنالك من يريد التقاط كلمة ليوصلها عنى، أنا الذى لم أعبث بالكلمات طوال السنوات الماضية، حتى لا يعلم الناس، وحتى الأقرباء، ما يدور فى بالى؟
قد يكون البحث عمن يقتنص كلمةً منى، لينقلها إلى الآخرين، هو ما قصده صاحبى، لذا شعرت بعد ذلك بالراحة، لكونى لست مريضا، وخائفا، ومعزولا عن الناس.
•••
أمور عديدة تشعر بها المغتربة السورية والمغترب السورى، دون غيرهم من المغتربين والمغتربات، والسكان الأصليين، وتختلف من شخص إلى آخر، ولكن القاسم المشترك بينها، هو الأرق من الحالة الجديدة، والتخوّف من المستقبل، لا سيما إن كان لديه طموح يريد تحقيقه، وينظر إلى سوريا من بعيدٍ على أنها جنّة يزورها بين حين وآخر، ويرى شوارعها، ويستنشق هواءها، ويضمّ من يحب، ويمكنه أن يشمّ الياسمين، وحتى التراب، وبعد ذلك يعود من حيث آتى.
أفكار متضاربة، تلك التى يستقبلها السورى فى غربته، ولا يعرف من أين يبدأ. تركيزه كله ينصبّ على العمل، أو الدراسة، بحيث يؤمّن مكانا لينام، ويحصل على طعام يومه، وهذا الأمر يشكّل القاسم المشترك بين غالبية السوريين والسوريات، لا الفئة القليلة من أصحاب المال الوفير، وهؤلاء، أينما حلّوا يعيشون.
فى رحلة البحث عن المستقَرّ والأمان، ناهيك عن حالة عدم الاستقرار التى يفقدها أى مغتربة ومغترب عن بلده، تُلاحَظ أمور عدة، منها عدم الخوض فى نقاشات سياسية، سواء مع مواطنيه، أو مع سكان البلد الذى يقيم فيه، ويبتعد البعد كله عن الإساءة، والظهور بشكل مغاير عما كان عليه فى سوريا، بالإضافة إلى كسب استحسان الآخرين، وودّهم.
يريد السورى فى بلده الثانى، ألا يزعج ويقسو، «يريد سلّته بلا عنب»، حسب المثل السائد فى سوريا، وتجده عونا لذويه فى بعض الأحيان، وهذه التفاصيل قلّما كانت موجودةً فى سوريا، فترى الحب الناتج عن الراحة والاطمئنان، مبعثا جديدا للحياة الجديدة، وتأخذنا والمغتربين، فى رحلةٍ جديدة، بعيدا عن الأزمات التى كانت تعصف بهم، أيام كانوا فى بلدهم.
وأبقى أنا الباحث عن حياة مشابهة لحياة من سبقنى، حتى لو كنت متأخرا، فصعوبة المشكلات النفسية، تؤدى إلى الكثير من المشكلات، أما عدا ذلك، فإن الراحة فى الحصول على الخدمات الأساسية، تكاد تكون السبيل إلى العمل على تحقيق شىء من ذلك الطموح الذى رسمته منذ زمن.

النص الأصلى:

التعليقات