لم يفاجئنى رد مازن، عندما سألته عن المادة الاختيارية التى نوى انتقاءها لسنته الأخيرة فى شهادة الدبلومة الأمريكية الثانوية. فمازن، كأغلب تلاميذ دفعته، قرر أن يسلك درب مادة البيزنس، لما تقدمه من «real life skills» أو «مهارات للحياة الحقيقية» على حد تعبيره. وقد يظن البعض أن رده أحبطنى، نظرًا لكونى مدرسًا للعلوم الإنسانية وباحثًا فى شئونها. أو ربما لتتبعى لأطروحاته الذكية وأسئلته الفضولية على مدار عام دراسى كامل والتى كانت تنبئ بمشروع باحث اجتماعى جاد، إلا أن عفويته الشديدة عكست حقيقة ــ ليست بجديدة ــ عن تراجع حاد فى شعبية أى مادة تمُت للعلوم الإنسانية بصلة بين جيلى Z وAlpha. ففى أغلب المدارس الدولية اليوم، قد تجد ما لا يزيد على عشرة طلاب ــ من أصل دفعة بها ما يتعدى مائة طالب ــ يلتحقون بالمواد الإنسانية بشقوقها. وهو التراجع الملحوظ أيضًا فى النظام الحكومى؛ حيث إن عدد الطلاب الملتحقين بالشُعب العلمية كان قد زاد بنسبة 2% عن العام الماضى، بينما انخفضت نسبة طلاب الشعبة الأدبية بنسبة 8%.
قد تتعدد أسباب اندثار شعبية «الإنسانيات». فبين تدريسها بأساليب حجرية عفى عليها الزمن تتمحور حول تلقين إجابات لأسئلة «بم تفسر»، وبين الغياب التام لأى تفاعل حقيقى مع الواقع المعاش للطلبة، تصبح تلك المواد شديدة الجمود. تلك المشكلة قد لا تنطبق على المناهج الغربية للمدارس الدولية لاحتوائها نسبيا على أدوات تعليمية أكثر تفاعلاً، إلا أنها هى الأخرى تطرح إشكاليات بعيدة كل البُعد عن واقع الطلاب المصريين. فطبيعى ألا يجذب أغلبهم التعلم عن تأثير التناحر بين المملكة البريطانية ودافعى الضرائب الأمريكيين على اندلاع الثورة الأمريكية، أو عن المشاكل التى تواجه الأقلية الباكستانية فى مدينة برايتون الإنجليزية!.
وقد يسهل فى تلك المعادلة لوم إدارات المدارس الدولية، بما أن فى مقدورها نظريًا زيادة الاهتمام بالإنسانيات والمواد المتمحورة حولها خارج القيود المفروضة على التعليم الحكومى، إلا أنها فى نهاية المطاف خاضعة لقوى العرض والطلب ــ كطبيعة أى مؤسسة رأسمالية باحثة عن الربح ــ يصبح شاغلها الشاغل التواؤم مع طلبات «الزبون» بغض النظر عن الفكر أو المضمون، لتحتكر مادة البيزنس أغلب المساحة المتاحة للإنسانيات فى معظم المدارس الدولية.
لكن تبقى الحقيقة مجردة. ليس من حقى لوم مازن وأقرانه على حقهم المشروع فى التفكير فى المرتب والجاه والحياة الميسورة! فسواء علم الاجتماع، أو التاريخ، أو الأنثروبولوجيا، فكلها تخصصات تحتاج إلى جامعات قوية داعمة لباحثيها بالموارد المادية والبحثية. فكيف لى إذن أن أتوقع من مازن متابعة اهتمامه بتعقيدات العلاقة بين ريف الدلتا وحضر القاهرة، لكى ينتهى به المطاف دكتورا جامعيا يقبض الفتات، وينتهى الحال بأبحاثه مدفونة فى الأدراج السفلى لواحدة من جامعاتنا العريقة معدومة التمويل.
• • •
اختيار مازن فى الواقع نتاج لتوجه عالمى ليس بجديد لبناء مؤسسات تعليمية تلبى احتياجات سوق العمل، تلعب فيه بلادنا دور التابع لسياسات اقتصاد متعولم يفرض نفسه على الجميع. ففى الولايات المتحدة مثلا، تتبرع مؤسسة بيل جيتس وزوجته ميليندا بملايين الدولارات كل عام للتأثير على سياسات التعليم المحلية. فقناعات بيل جيتس الشخصية بأهمية خصخصة التعليم ساهمت فى تحويل الكثير من المدارس الحكومية خلال العقد المنصرم إلى مؤسسات مستأجرة تحاسب على مدى تبنيها لمعايير تخدم سوق العمل مباشرة. وقد ضخت مؤسستهما منحا للمدارس التى تشجع الاهتمام بالعلوم والرياضيات فى الكثير من الأحياء الفقيرة بالمدن الكبرى، مما ساهم فى تراجع الاهتمام بالمواد الإنسانية كنتيجة طبيعية.
وقد شهدت شخصيا انعكاس تلك التوجهات على أرض الواقع. أتذكر مثلا سيل الإعلانات الذى غمر عربات القطار فى مترو أنفاق مدينة نيويورك لتسويق دبلومات إعداد فنيى الأشعة المقطعية، بعد أن تزايدت أعداد معامل الأشعة فى المدينة. وكانت المدرسة الثانوية التى كنت أعمل بها تحاول إقناع الخريجين بالالتحاق بتلك البرامج. هذه الدبلومات كانت تعطى الطلاب كبسولات تعليمية فنية، لا تحتوى على أى معرفة نقدية عن نظام التأمين الصحى فى الولايات المتحدة، وكيفية استغلال مراكز الأشعة لاحتياجات المرضى للانتفاع منهم. فتصبح دبلومات لتصنيع تروسا غير مدركة لدورها فى منظومة تخدم مصالح شركات التأمين الصحى وهو ما يساهم فى ترسيخها وتطبيعها.
العلاقة الوطيدة بين التعليم والاقتصاد ليست بجديدة. فمثلا، المؤرخ تيموثى ميتشل يشير إلى أن جزءا من قرار تبنى المدارس الابتدائية وإحلال الكتَّاب فى القرن التاسع عشر فى مصر كان بناء مواطنين يملكون حدًا أدنى من المهارات الحسابية والقرائية لتمكنهم من الالتحاق بالبيروقراطية المصرية الخادمة لمصالح الاقتصاد البريطانى وقتها. إلا أن التعليم النظامى كان دوما له أهداف اجتماعية ونفسية مهمة توضع فى الحسبان. ففى أوروبا وأمريكا لعبت المدارس دورًا قوميًا فى نشر قيم النظافة الشخصية لمحاربة انتشار الأمراض. وفى مصر حاربت الحركة الوطنية لتعليم عربية فصحى سهلة لتتيح نشر أفكار الاستقلال والقومية فى مطلع القرن الفائت بين جموع الشعب.
هذا التقاطع بين الاقتصادى والاجتماعى تحول للأسف فى العقود الأخيرة إلى هوس بسوق العمل أو بما أسماه الفيلسوف ميشيل فوكو economisation of the social أو «رسملة الاجتماعى». فهل المطلوب هو تحويل التعليم إلى سلعة تخدم مصالح رأس المال وفقط؟ وهل يجب أن يكون الاختيار ثنائيا بين مطرقة سوق العمل بمواده العلمية والاقتصادية وسندان الثقافة وبناء الفكر بمواده الإنسانية؟
• • •
وجدت ضالتى فى عام ٢٠١٩ عندما سافرت إلى فنلندا فى ورشة تعريفية عن نظام التعليم هناك. ولمن لا يعلم، ففنلندا تعتبر من أكثر دول العالم تطورا واختلافا فى نظام تعليمها. وهو نظام بفلسفة غير اعتيادية يطول شرح مبتغاه وطرق إدارته. ما يهم قصتنا هذه، هو دخولى لأحد المدارس الحكومية هناك، لتعريضنا لنظام جديد كانوا قد بدأوا لتوهم فى نشره يسمى بالـ Phenomenon-based learning أو تعليم الظواهر.
كانت «المدينة» هى الظاهرة التى اختار طلبة الصف العاشر حينها الانغماس فى تعلمها. وحكى لنا المدرسون بتخصصاتهم المختلفة من تاريخ وفيزياء ورياضيات وفن عن اجتماعهم فى ورش مطولة قبل بدء السنة الدراسية لخلق منهج تشاركى يمتد على مدار أربعة أشهر. الحصيلة كانت منهجا متشابكا يدمج بين فروع العلم، بشكل يستوعب طبيعة التعلم المتداخلة والمعقدة. فمدرسة الدراسات الاجتماعية بحثت مع الطلبة كيفية تطور المجتمعات من مجتمعات زراعية إلى تمركزات سكانية مدنية - وصولا إلى الحاضر والمشاكل التى تواجه المدن الفنلندية المختلفة. مدرسة الفيزياء علمت الطلاب عن التمدد الرأسى والهندسة المعمارية وراء المبانى. ومدرس الفنون ساعدهم على تعلم كيفية بناء هيكل طويل مستقر، وهكذا.
ما أذهلنى حقيقة كان مشروع التِرم، وهو المشروع الذى تقاطعت فيه كل هذه المجالات. فقد طُلِبَ من مجموعات مختلفة بناء مدينة مثالية تخاطب احتياجات المواطن الفنلندى على ماكيت كبير. كانت مدينة تتبلور فيها أحلام الطلبة مع ما تعلموه عن مشاكل تواجه مجتمعاتهم اليوم. فخصصوا ملاعب مجانية، ومستشفيات ودور مسنين، ومراكز للعب الموسيقى فى الحدائق. وبنوا مبانى خشبية صغيرة تحول ما تعلموه من هندسة لشىء ملموس. طبعا، بسخرية وتشكك المواطن المصرى المعهودة، سألت مدرس مادة الاقتصاد حينها عن خطورة اصطدام الحلم بالواقع وعقباته. فرد قائلا «هذا الترم هدفه الحلم والأمل ووضع بذرة لتخيل واقع مختلف». كانت خطة الترم القادم هى فهم التعقيدات الاقتصادية والعوائق التى تحيل بين الحلم وتحقيقه. ومحاولة تقديم حلول ــ وإن كانت بسيطة ــ للتعامل معه.
• • •
تقاطع مجالات المعرفة ليس بفلسفة جديدة على جنسنا البشرى. فداڤينشى كان فنانا ومهندسا ومعماريا، وابن رشد كان فيلسوفا وطبيبا وقانونيا. كما أن تعليم الظواهر ليس معاديا للتخصصية. فالتخصص مطلوب ومحمود. ولكن شتان الفارق بين التخصص وضيق الأفق. تعليم الظواهر يثبت للطلبة أن الإنسانيات والعلوم يربطهما ارتباطا وثيقا ويهدف إلى تحدى الفصل الكاذب بين الأدبى والعلمى. والأهم أن فلسفته تهدف إلى بناء عالمات يدركن تأثير معاملهن وأبحاثهن على حياة البشر بالسلب والإيجاب. وتهدف إلى تشكيل وعى مديرى الشركات ورواد الأعمال، كى يدركوا تأثير مصانعهم ورواتبهم على كسر أو تعميق سلاسل الفقر العالمية أو حتى على قضايا حساسة كالاحتباس الحرارى.
طوال رحلتى بقيت أفكر فى سؤالين: هل تجوز حقا مقارنة دولة صغيرة بحجم فنلندا ونظام تعليمها ومعلميها بمصر وتعقيداتها؟ والأهم، ماذا لو كان مازن يبنى ماكيت يحلم من خلاله بقاهرة الغد، هل كان من الممكن أن يختار sociology بدلا من business؟