هل حقًا أننا خارج المعاصرة؟ - علي محمد فخرو - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:36 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل حقًا أننا خارج المعاصرة؟

نشر فى : الخميس 1 ديسمبر 2016 - 9:35 م | آخر تحديث : الخميس 1 ديسمبر 2016 - 9:35 م
دعنا ننزل إلى ساحات واقع الحياة العربية لنرى إن كانت الملاحظات والوقائع تستدعى وجود ذلك الصراع المفتعل بين الأصالة والمعاصرة.

دعنا نبسط الأمر وننظر إلى السطح أولا، ونبدأ بقائمة الكلمات المهيمنة على تعاملنا مع أهم النشاطات التى تحكم حياة المجتمعات العربية، وبالتالى الإنسان العربى، من مثل النشاطات السياسية، والعلاقات الاجتماعية، والأفكار المتداولة، والنشاطات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والإعلامية والفنية، والخدمات الصحية والتعليمية.

فالكلمات المتداولة فى السياسة تشمل الديمقراطية والأحزاب والانتخابات والبرلمان والدستور والقوانين والسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والبيروقراطية. فهل هذه كلمات المعاصرة أم كلمات الأصالة؟

أليست كلمات الأصالة من مثل الخلافة وأمير المؤمنين وذوى الحلّ والعقد وطاعة ولى الأمر والشورى وأهل البيت وعقد البيعة وتطبيق شرع الله واعتبار كل معارضة سياسية فتنة دينية، أليست غير متداولة ومنسية، وبالتالى فأغلبها يصنف ككلمات قاموسية غير مستعملة ولا متداولة؟

وفى عالم الفكر والمبادئ والقيم أليست الكلمات المتداولة على كل لسان هى من مثل الحرية والمساواة والأخوة الإنسانية والليبرالية والحداثة والتقدم وحقوق الإنسان وحرية التعبير والعدالة الاجتماعية وغيرها.. أفليست هذه كلمات المعاصرة وأهدافها ووسائلها؟

وفى عالم الاقتصاد أليست الكلمات المهيمنة هى الرأسمالية والاشتراكية والنيوليبرالية العولمية وقانون حرية الأسواق والميزانية والضرائب والدخل القومى العام والإحصائيات ودخل الفرد السنوى والبنوك والفوائد والقروض والودائع وغيرها، أليست جميع هذه الكلمات معاصرة؟ هل يذكر أحد كلمات من مثل بيت المال والخراج والجزية وغيرها من الكلمات المندرجة فى الأصالة والتى كانت تصف وتتعامل مع حياة اقتصادية بدائية شديدة البساطة؟

وبالطبع لا نحتاج أن نسرد آلاف الكلمات العلمية والتكنولوجية والطبية والإعلامية والتواصلية الإلكترونية والموسيقية والفنية التى جميعها تنتمى إلى عالمنا المعاصر، وليس لها وجود فى تراثنا ولا صلة بمفهوم الأصالة.

***

ما نحتاج أن نعى دلالاته بعمق هو أن قسما كبيرا من تلك الكلمات المعاصرة تنتمى فى أصولها اللغوية ومفاهيمها إلى الحضارتين اليونانية والرومانية. وهذا يجعلنا فى الحاضر مرتبطين فكريا وتنظيميا ولغة بهاتين الحضارتين، تماما كما هو الحال بالنسبة لأمم ومجتمعات الغرب. ومثلما تمددت فى الماضى البعيد جذورنا إلى حضارات الهند وفارس واليونان فإنها تعود اليوم فتتمًّدد، من خلال الحضارة المعاصرة الغربية، إلى حضارتى اليونان وروما بقوة أكثر وتشابك أشد.

ثمُ لنذكِّر أنفسنا بتأثير الكلمات على تكوين اللغة والخطاب، تكوين الأفكار والعقليات، سعة أو ضيق الخيال، التواصل والتفاعل الفكرى بين البشر، حتى ندرك بأننا فى قلب العصر، وأننا، شئنا أم أبينا، نواجه يوميا إملاءاته ونتعايش مع متطلباته. فالكلمات تكون اللغة، واللغة هى وعاء الفكر، والفكر يكوِّن العقل.

إذا كان الأمر كذلك بالنسبة لجانب واحد فقط من التشابك والتفاعل بين الأصالة والمعاصرة فى عالم الكلمات والتعابير، فإذن أين المشكلة بالنسبة لما يسمى بالصراع بين الأصالة والمعاصرة؟ هل حقا أنه صراع وتناقض أم أنه معركة وهمية آن لها أن تهدأ وتترك المجال لتفاعل إبداعى خلاَّق يغنى حياتنا ويغنى الآخر؟

دعنا من الخلافات النظرية البحتة بين رافعى راية الأصالة وبين رافعى راية المعاصرة، والذين لا يرون فى الأمر إلا مقارنات بين النصوص التراثية والنصوص الحداثية. فلُب الموضوع أكثر من ذلك بكثير، وهو لا يكمن فى المقارنات والمناظرات النظرية، ولكن يكمن فى فهم الواقع وفى معالجة مشاكل الواقع وتخطى تخلفه وعجزه وبلاداته التى وصلت إلى قمتها فى المشهد الجهادى التكفيرى العنفى العبثى الذى يلفح وجوهنا ليل نهار وفى طول وعرض بلاد العرب.

إن القضية الثانية الكبرى هى فى مواجهة تحديات العصر فهما ونضاليا وربطه ربطا محكما بفهم الواقع العربى وتجاوز تخلفه.

من أجل تغيير الواقع والاستجابة لتحديات العصر نحتاج إلى مواجهة وحل إشكاليات عدة: لدينا إشكالية مع رجوع الاستعمار ونجاحاته وتخطيطه لمستقبلنا، لدينا إشكالية الاقتصاد الريعى الخاضع لمنطق الرأسمالية النيوليبرالية العولمية على حساب الفقراء والمهمشين والطبقة الوسطى، لدينا إشكالية الوجود الاستيطانى الصهيونى وضرورة دحره، لدينا إشكالية الاستبداد والتسلط الأمنى على حساب الانتقال السلمى لنظام ديمقراطى معقول، لدينا إشكالية التراجع المأساوى فى وجود وفاعلية النظام القومى الإقليمى العروبى لحساب صعود قوى إقليمية أخرى وهيمنتها على مقدرات وأرض بلاد العرب، لدينا العجز والشلل والتمزق فى نضال القوى الشعبية المدنية السياسية العربية، لدينا التراجعات الهائلة فى حقول خدمات الصحة والتعليم والفنون وذلك لحساب الخصخصة والهيمنات الطائفية والقبلية وبسبب ضعف القوى التقدمية الناظرة إلى المستقبل.

***

تلك عينات من مشكلاتنا تحتاج إلى جعل موضوع الأصالة والمعاصرة فى خدمة إيجاد حلول لها لا تتجاهل التراث ولا تتعامى عن التحامنا المتنامى بالعصرنة، والذى أبرزنا مقداره وتشابكه فى عالم الكلمات والتعابير التى نستعملها ليل نهار.

آن لهذه الأمة أن تخرج من المعارك الوهمية وتدير وجهها نحو حل مشاكل حياتها، وما أكثرها.

 

علي محمد فخرو  شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التعليقات