في مَلعب مَهجور، حُفِرت بعض أركانُه، وتُرِكَت المياه تنساب مِن خرطوم طويل لتُغرِق أرضه، وتصنع فيها بِركًا صغيرة، مكثت أتفرج على مجموعات كبيرة من الطيور تحطُّ مجتمعة، فتشرب بنهم وسرعة ثم تعاود التحليق من جديد، وفي تحليقها تتساقط بعض الريشات، وتتناثر بين الحشائش.
***
التقطت ريشة، رمادية ملساء، وقوية في الوقت ذاته، وتذكرت القول الشائع: ”اللي يجي في الريش بقشيش“ قول يستخدمه كثيرنا في موضع المواساة وتطييب الخاطر، فالأذى في مال أو جماد أيًا كانت قيمته، يمكن تحمله والتعامل معه دون حزن وهم، على عكس ما يمس صحة وسلامة الإنسان، فيحرمه النوم والسكينة.
***
جربت أن ألعب مع نفسي لعبة محورها الريش، أبتعد بها لدقائق عن مؤرقات الحال ومنغصات الأجواء. للريشة رغم بساطتها الظاهرة مكان في أقوالنا ومحل في أفعالنا، نقول في التعبير عن النحافة إن فلانة رفيعة كما الريشة، وفي تقدير الوزن نَصِف عِلّانًا بأنه خفيفٌ كما الريشة، والريشة كما هو معروف وزنٌ مِن أوزان لعبة الملاكمة. رغم خفته، فالريش يحمي أجسام الطيور من البرودة القارصة ويبقيها في درجة حرارة دافئة ومثالية، ولذلك فإن المعاطف التي تُصنَع خصيصًا للأجواء الثلجية، تكون محشوة بالريش، وبه تزداد قيمتها.
***
الريش نفسه أنواع؛ منه المتواضع في مظهره وقيمته، ومنه باهظ الثمن، ريش الطيور الصغيرة المنتشرة لا يهتم به أحد، أما ريش الطيور مِن بعض الفصائل النادرة؛ فعزيز، شحيح، له مكانته التي تعكس مقدار الرفاهة. ريش النعامة على سبيل المثال، يزين المتاع، والشخص الذي يُوصَف بأنه“مِتريِّش“ هو الغني فائض الثراء.
***
في عصور قديمة، كانت الريشة أداة الكتابة، يُنقَش بها الحرفُ نقشًا، فتكون النتيجة لوحةً تشكيليةً تُبِهر المُتطَلّع إليها؛ كان لدى الناس وقتٌ للكتابة المتأنية المتقنة، وفسحة للتفكير، وبراحًا في الصدر للإعادة والتجويد؛ تُغمَس الريشةُ في الحبر، وتتحرك على الورق السميك، تعلو وتهبط وتضع النقطة والهمزة والفصلة، وكأن رسمَ الحروفِ عملٌ جليلٌ في حد ذاته. يُشار في بعض الأحيان إلى عمل فني فيقال: ريشة الفنان فلان، رغم أن أحدًا لم يعد يَستخدم الريشة الآن، لا في رسم ولا كتابة؛ إذ حَّلت محلَّها أدواتٌ أخرى أكثر حداثة.
***
كثيرًا ما سمعت مِن أشخاص أغلبهم كبار في السن ومنهم جدتي، تساؤلا ساخرًا مُستنكرًا: ”ليه هو احنا دقّين ريش؟!“ يقفز هذا التساؤل الغريب في مواقف بعينها، ليواجه ما يجافي المنطق والعقل، وما لا يمكن أبدًا تصديقه؛ كذبة مكشوفة مفضوحة، لم يبذل صاحبها أو صاحبتها جهدًا في حبكها، عجزًا ربما، أو استخفافًا بمن سيتلقونها وعدم اكتراث برد فعلهم اتجاهها.
***
صغيرة؛ لم أكن أفهم ما تقول جدتي، لكني أستشعر ما تعني، حين كبرت قليلا تصورت أن حديثها عن الريش يعني أننا دجاج، مجرد طيور لا تفهم ولا تدرك، وبالتالي تكون في الأمر إهانة، وفي الكلام الكاذب الذي لم ينطل علينا، ما يستوجبُ الردَّ. بعد قليل وجدت تصورًا آخر، فالريش جزءٌ مِن المظهر التقليدي الذي يحتل أذهاننا عن الهنود الحمر، وقد ربطت بين هذا الإطار النمطي وبين ثقافتنا العامة التي توليهم نظرة متعالية، وتلصق بهم السذاجة المفرطة والبدائية، واعتقدت لفترة أن تعبير ”دق الريش“ يشير إلى ما لعرق الهنود الحمر في عرف عديد الناس من صفات سلبية؛ قلت إن ”داقق الريش“ شخص بسيط التفكير، مطمع لكذبات الآخرين، يسهل إيقاعه وخداعه.
***
أدركت بعد قليل أن ثمة مقولة أخرى تجافي اعتقادي وتفنده، وتنصف الريش وترفع من قدره، فحين يقول الناس أن فلانًا ”على رأسه ريشه“، فهم يعنون أنه يملك امتيازًا على الآخرين، هو الأعلى منهم مكانة؛ ربما يكون علوه وما يحظى به من امتياز، قد جاءا عن غير حق، لكن الريشة في النهاية صارت أداة تعظيم لا تحقير.
***
على كل حال، قرأت لاحقًا عن حضارة أصحاب تيجان الريش وعرفت أن التاج على رأس أفراد القبائل الهندية القديمة ليس أداة للزينة وحسب، فلكل ريشة معنى، وكل ريشة تضيف قيمة ومقامًا في موضعها، أما عن تلك الصفات التي ألصقناها بهم دون ذنب أو جريرة، فلم تكن سوى خليط من جهل، ومن دهشة أمام آخر مختلف، ومن عجز عن كبت مشاعر عنصرية؛ تفصح عن نفسها كلما وجدت سبيلا، فتغض الطرف عن الظلم، بل وتزيد عليه استهزاءً ومزاحًا.
***
ليس الريش وحده هو ما يُدقُّ في مأثوراتنا، فبعضنا يستخدم تعبيرًا مُماثلًا، وإن تجاوز الريش إلى حامله الأصلي. منا من يصف الشخص ضعيف العقل، قليل الحصافة، سطحيّ الإدراك، بأنه: ”داقق عصافير. “يُقال إن التعبير له أصل ضارب في التاريخ، يعود إلى مصر القديمة، حيث كانت العصافير الصغيرة تُرسَم على جانبي رأس الشخص الساذج، وعلى هذا صار السلوك الذي تشوبه الخفة وينقصه الاتزان، دافعًا لوصف صاحبه بأنه ”داقق عصافير“، وحتى وقتنا هذا لا ينفك عديد الناس يعبرون عن شكوكهم إزاء تصرفات آخرين، بإصدار أصوات تشبه العصافير.
يبدو أن للعصافير نصيب وافر في ارتباطها بعلل العقل على تباينها، ففي لبنان إحدى أكبر المصحات النفسية التي أنشئت في القرن التاسع عشر، وأوقف العمل بها نهايات القرن العشرين: ”العصفورية“، ويقال إن هذه المصحة استمدت اسمها من كثرة العصافير التي سكنت أشجار الصنوبر في هذا المكان.
***
بت أعتقد في الآونة الأخيرة أننا ندقُّ الريشَ والعصافيرَ بإرادتنا؛ كلٌّ مِنا يمضي في الطريق، حاملًا معه ما تيسَّر مِن أجولة الريش ونقوشِ العصافير، يستعينُ بها على الواقع الذي لا يمكن تصديقه!