أذكرُ في إحدى زياراتي للأوبرا منذ أعوامٍ خَلت، أن سمعت بعضَ الجالسين في الجوار يتهامَسون أن ما هذه البَهدلَة وقِلَّة القيمة؟ نظرت حَولي استطلع المَوقِف فرأيت بين الجُّمهور من ارتدى جلبابًا تقليديًا وطاقية، وكان العرضُ في المَسرح الكبير؛ حيث الزيّ مُقنَّن والقواعد ساريةٌ مَعروفة؛ تحدد نوعيَّةَ الملابسِ وتُلزِم بها الزائرين. كانت الأوبرا قد رفعت حينها شعارًا يجعلها للجميع، ولم يكن الأمر رغم ما يبدو عليه من عدالةٍ ومُساواة بمنطقي؛ فليس على هذا "الجميع" أن يتذوَّق الفنونَ المُختلفة بذائقةٍ واحدة، ولا أن يُعجبَ بها بدرجةٍ واحدة، ولا أن يُعطيها ما تستوجِب من تقدير. رأى المتهامسون في مَسلَك الرَّجل صاحب الجلباب بَهدلةً؛ ليست فيه كشخصٍ، بل في حقّ المكان وتقاليدِه ونظامِه الذي ارتضاه الناسُ واتبعوه، وبدا الموقفُ برمته سخيفًا؛ فيه من خلطِ الأوراق ما يُؤسَى له.
• • •
يأتي الفعلُ بَهدَل في قواميس اللغة العربية بمعنى أهان خصمَه وأظهر سخافته وتفاهته، الفاعلُ مُبهدِل بكسر الدال والمَفعول به مُبهْدَل بفتحها والبَهدَلة مصدر مُبَهْدَل.
• • •
ربما يتمادى المرءُ في الإتيان بسلوكٍ مُسيء وينصحه الناسُ حينها قائلين: كفاية بَهدَلة. يحثونه على الرجوع عن الطريق المُختار وينبهونه لما أصابه؛ فبعضُ المرات يبقى الواحد غافلًا عما صار إليه، ويستغرِق في صنيعه عاميًا عن النتائج، لاهيًا عن العواقب؛ رغم أنه لا يجد في رحلتِه ما يسر الفؤادَ أو يطربُ النفس.
• • •
حين يضع الواحد نفسَه في موقفٍ حَرِج لا يليق؛ يُلام في العادة مِمَن ورَّطهم معه فنالوا من الإهانة نصيبًا. تنطقُ الأعينَ وإن لم تَرِد الكلماتُ على الألسنة: بَهدلتنا على آخرِ الزَّمن، والمعنى أنهم ما بَرحوا مُحتفظين بسيرةٍ طيبة وباحترامِ الآخرين لهم؛ إلى أن وقعت الواقعةُ، فتبدَّلت على أثرِها النَّظرةُ، وفقدوا ما كان لهم في السابِق مِن رَصيد. لن تنته الحياةُ ولن تتوقف عند حادثة واحدة؛ لكنه الشعورُ الداهمُ بأن ثمَّة ما أصابته الشروخُ وما لن تتأتى استعادتُه سليمًا نقيًا.
• • •
بعضُ الأحيان تأتي البَهدلةُ والإهانةُ من طرفٍ مَرهوب الجانب، يغضُّ الناسُ أبصارهم عن تجاوزاته، ويعطونه حقَّ التبكيت والتقريع؛ فإن سئلوا لما يقبلون منه ما لا يقبلون مِن غيره جاء الجوابُ: بَهدلةٌ عن بَهدلة تفرق. من الناس من يترضي التعرُّضَ للبَهدلةِ في سبيل إنجاز يصبو إليه، فيما يأنف آخرون التنازل عن كرامتهم ولو كان الهدفُ ضخمًا ثمينًا.
• • •
إذا ارتدى المرءُ ما لا يُناسبه، أو بدت هيئتُه في غير تناسق، تهامس الناسُ أنه مُبهْدَل. ربما اختار ما ليس مِن مَقاسه أو ما لا يُوافِق عمرَه ومَقامه، أو ربما قرَّر أن يضعَ على جَسده ما يُحب؛ دون اهتمامٍ بطبيعةِ المكان الذي يَطرقه. بعضُ الثقافاتِ تَغضُّ البَصرَ عن المَلبس وتَعده شأنا شخصيًا لا دخل للآخرين فيه، وبعضُها يهتمُّ به اهتمامًا كبيرًا، ويَضعه ضِمن علاماتِ الاحترام؛ بل ويَحكم من خلاله على الناس لكن الحكمَ يظلُّ نسبيًا؛ وقد بقي الجيلُ الأكبر سنًا ينظر للصيحاتِ الحديثةِ التي تعفي المَلابسَ من الكيّ وتتركها بكسراتها؛ على أنها بَهدَلةٌ غير مَقبولة.
• • •
في الفيلم العربيّ "معلش إحنا بنتبهدل" من إخراج شريف مندور وإنتاج العام ألفين وخمسة؛ يظهر الفنان أحمد آدم في دَور البطل الذي يُسافر إلى العراقِ باحثًا عن ولده المفقود بسبب الحرب، وإذ يتمتع بقُدرةٍ هائلةٍ على المُناورة، فإنه يدخلُ مُغامرةً وراء أخرى، ولا تكون البَهدلةُ من نصيبِه وحده، فالسخريةُ اللاذعةُ تطال القواتِ الأمريكيةِ ورئيس الولايات المتحدة نفسه.
• • •
يرتبط أفرادُ العائلةِ برباطٍ لا ينفصِم، فإن ارتكب أحدهم حماقةً، انسحبت على الآخرين ونالهم من أثرِها ما لا يُنكَر. يأتي الرجاءُ من أحدِهم مشفوعًا بالتوسُّل: ما تبهدلناش معاك، والقصد أن ما يُصيبُك يُصيبنا بالتبعيَّة، وما تفعل يأخذه الآخرون علينا؛ ففي المُجتمعات الشرقيَّة لا يستقلُّ كلُّ فرد بذنبِه؛ بل يُحاسَب عليه الجميع ويَحملون عاقبته.
• • •
يستحقُّ الواحد بعضَ المرَّات ما ينالُ من بَهدلَة؛ إذ يُقدِم على سلوكٍ يَجعله مَوضعَ تجريحٍ وسُخرية. يدفع الناسُ لانتقاده، وأحيانًا للإشفاقِ عليه والرثاءِ لما وصلت إليه حاله. في سياق ما الحربِ الجارية على أرضِ فلسطين منذ السابع من أكتوبر؛ أتى بعضُ الفنانين بسلوكياتٍ فجَّة مُذلَّة، بَهدلوا أنفسَهم بأيديهم وحرَّضوا الجماهيرَ ضدهم بصورةٍ غير مُتوقَّعة. لم يكن الأمر مألوفًا فالحركةُ الجمعيَّة العنيفةُ نادرة، والتوحد على هدفٍ مثلما حدث يُعَد من النوادر؛ لكنها القضيةُ الكبرى التي شغلت الناسَ وأيقظت مشاعرَهم بعد طول رقاد.
• • •
إذا كان موقفُ الإهانة والتسفيه مُوسَّعًا شاملًا؛ وُصِف بأنه بَهدلةُ الدنيا والآخرة، وفي الإطار ذاته تأتي بهدلةُ السنين التي تعكسُ حصادًا كبيرًا مُتراكمًا، أما البَهدلةُ التي لا أول لها ولا آخر؛ فتكني الاستمرارية؛ إذ لا نقطةُ بداية لها ولا نهاية أيضًا. هناك أيضًا هذا الذي تعرَّض للبَهدلةِ من طوبِ الأرض؛ تدليلًا على استباحةِ الآخرين له وهوانِه على الجميع، أما بَهدلَة المشوار؛ فتعبٌ وإرهاقٌ ومُحاولاتٌ لتخطّي عوائق الطريق.
• • •
كثيرًا ما تجتمع المفردتان: البَهدلَةُ والدَّهوَلة. لا تحملُ معاجمُ اللغةِ العربيَّة مُفردة "الدَهوَلة"، لكنها تشير إلى الدَّاهِل أي؛ الحائر الذي لا يتمَكَّن مِن حَسم أمره. يحار أغلبُنا في ما صارت إليه الأحوالُ، يُفتش عن الخطأ الذي أفضى إلى خرابٍ، ويَسألُ عن الحلّ المُنتظَر.
• • •
أدَّت المقاومةُ الفلسطينية أداءً جبارًا عظيمًا؛ أحرزَت انتصاراتٍ مُتتالية على المُستويات كافة، فتتت للمرَّة الثانية أكذوبةَ الجيش الذي لا يُقهَر، وأظهرت بأسًا وثباتًا هائلين، كما نشرت الوعي بمفردات القضيةِ وجَذبت انتباه الشُّعوب المُضلَّلة فراحت تبحث وتقرأ وتُبدل مَواقفها. الحقُّ أن المُقاومين بَهدلوا العَدوَّ؛ والكلمةُ في محلّها بما تحملُ من معاني، فالهزيمةُ أقلّ من الوَصف المُستحَقّ، أما البَهدلةُ فإظهار للتفاهةِ والزيفِ وإلحاقِ للإهانةِ بمن يستحقها.