«حلف غير مقدّس» بين المافيات والشركات مُتعددة الجنسيات - سعد محيو - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 7:26 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«حلف غير مقدّس» بين المافيات والشركات مُتعددة الجنسيات

نشر فى : الأربعاء 2 فبراير 2022 - 10:00 ص | آخر تحديث : الخميس 3 فبراير 2022 - 11:36 ص
كتاب شجاع.
هذا أقل ما يمكن أن يوصف به المؤلف المفكر والمحامى اللبنانى البارز توفيق البعينى والباحث القانونى الفرنسى نيقولا فو، الذى حمل العنوان «شركات متعددة الجنسيات أم منظمات مافيا ــ عالم الموز»؟
لماذا هو شجاع؟
ببساطة لأنه جاء فى مرحلة هى العالم تحت السلطة المُطلقة لمملكة لـ«الرأسمالية النقيّة»، المُتمثلة بالشركات العملاقة متعددة الجنسيات، والتى باتت تُسيطر عمليا على كل مناحى الحياة البشرية: من الاقتصاد إلى السياسة، ومن الجامعات إلى مراكز الأبحاث (وبالتالى من الفكر إلى الثقافة)، ومن الإعلام إلى وسائل التواصل الاجتماعى. والأهم الأهم: من تكنولوجيا الثورة التكنولوجية الثالثة إلى الثورة التكنولوجية الرابعة التى يتربّع على عرشها الآن الذكاء الاصطناعى.
هى سلطة مُطلقة تعج بجيوش جرارة من كل الأصناف لم يشهد لها التاريخ بشطريه القديم والحديث مثيلا.
كتب د. جورج قرم (فى كتابه الأخير «حكم العالم الجديد»): «ثمة بالفعل بيروقراطية مُعولمة، تشكّل جيوشا حقيقية فى الإعلام والثقافة والأكاديميا والسياسة. وهى بدأت منذ الستينيات تخترق الدول وتقيم شبكات من أنواع جديدة من السلطة العابرة للحدود القومية، من خلال بنية قوية هرمية وأفقية تدعمها بيروقراطية ضخمة».
تعبير الجيوش الجرارة هنا لن يكون مجازيا، حين نضع فى الاعتبار العناصر المشكّلة لها: مئات مراكز الأبحاث الكبيرة. موظفون كبار فى الدول والمؤسسات الدولية. الأكاديميون وصانعو القرارين السياسى والإعلامى. قادة كبريات المنظمات غير الحكومية (نحو 50 ألف منظمة غير حكومية، بينها هيومان رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية ومنظمة الشفافية الدولية)، كما أن هناك جيوشا صغيرة أخرى تعمل فى خدمة العولمة فى كل أنحاء العالم وفق انضباطية هرمية، وتضم الملايين الذين يتصرّفون كجنود طائعين.
من أراد تحدى هذه السلطة العارمة، التى تحوم كالشبح فوق العالم المادى وكالأخطبوط داخل العالم الافتراضى الناشئ، والتى أطلق عليه نيغرى وهارت عن حق تعبير «الإمبراطورية»، سيجد نفسه أشبه بفارس وحيد يحاصر قلعة محصّنة. وبالطبع، يجب عليه حينها أن يدفع الثمن باهظا تهميشا وإقصاء وربما ما هو أكثر من ذلك.
• • •
البعينى وفور ركبا هذا المركب الخشن، على رغم أنهما انخرطا بكثافة كمحاميين فى نشاطات الأعمال الدولية فى أوروبا والولايات المتحدة والشرق الأوسط، وفعلا ما لم يجرؤ عليه خصوم العولمة والشركات الكبرى حين أماطا اللثام ليس فقط عن التشابه المذهل بين الشركات متعددة الجنسيات وبين منظمات المافيا، بل أيضا عن التقاطعات وأوجه «التعاون» بينهما، خاصة فى مجالات المال والعقارات والسياسة والاستثمار.
وهذه، كما نعتقد، كانت المرة الأولى التى يتم فيها التطرّق إلى أواصر الصلة بين عالمى الأعمال الدولية وبين حلقات الإجرام العالمى. صحيح أن الكاتب الأمريكى جون بيركيز، فى كتابه «اعترافات مجرم مأجور اقتصادى» Confessions of an Economic Hit Man، تطرّق بكثافة مذهلة (وتعرّض بسببها إلى تهديدات بالقتل أو إغراءات الرشوة) إلى الدور الكبير الذى تلعبه الشركات متعددة الجنسيات فى تمزيق أنسجة المجتمعات وقيمها وإحلال مفاهيم الربح غير القانونى والفساد وتدمير القيم والبيئة الطبيعية، إلا أنه لم يذهب إلى حد عقد قران هذه الشركات مع منظمات المافيا كما فعل مؤلفانا. وهما فعلا ذلك، بالمناسبة، بطريقة ذكية ومشوّقة، حين انطلقا من الفيلم الأمريكى «العراب» ليوضحا طبيعة العلاقة الوثيقة بين المافيات والشركات، وليكشفا أن ثمة فضاء رماديا مفتوحا بين هذين العالمين يشى بتشابه مثير بينهما فى السلوك والتصرفات، وحتى فى مناحى التفكير.
• • •
فى الجزء الأول من الكتاب، المعنون «منظّمة علمية»، والذى استند إلى نظرية المفكر الفرنسى رينيه جيرار حول مبدأ «التقليد» فى علم الاجتماع، يفصّل المؤلفان سمات منظمات المافيا، ويقارنانها بالشركات متعددة الجنسيات وأوجه التشابه بينها فى مجال القيم (العنف، والتراتبية، والسرّية)، إضافة إلى قيم النهب الضارى، ووسائل الضغط، والبنية العائلية. هذه المقارنة فى غاية الأهمية، لأنها تتطّرق ضمنا إلى السمة الحقيقية لإيديولوجيا «الليبرالية الجديدة» التى «تبشّر» بتعميم النزعة الاستهلاكية المنفلتة من عقالها، والتى تحاول أن تُضفى الشرعية (التى تقترب من القداسة الدينية) على نظام اقتصادى قائم على الريع، والهدر الشامل، والمضاربات المالية العشوائية، والفساد، وانعدام العدالة.
فى الفصل الثانى، ثمة تحليل لمسألتى القيادة والإدارة التى يتشاطرها قادة وزعماء المافيات والشركات معا، حيث إن الإدارة المحترفة تعتبر عاملا أساسيا لكلٍ من المنظمات الاقتصادية والإجرامية لتحقيق هدفهما المشترك وهو تعظيم الأرباح، بغض النظر عن الأكلاف الإنسانية والبيئية. والآن، فإن التسويق والاتصالات، وهى الأدوات الاستراتيجية التى تستخدمها الشركات متعددة الجنسيات، باتت مستخدمة أيضا فى استراتيجيات منظمات المافيا.
نقطة أخرى يتقاطع عندها الطرفان هى التفاعل مع عالم السياسة. فعائلات المافيا اندمجت هى الأخرى فى بنى السلطة السياسية كما الشركات (مثلما يحدث الآن مثلا بشكل فاقع فى الجبل الأسود والقارة الأفريقية). هناك، تعمل بعض الشركات متعددة الجنسيات على نحو وثيق مع المنظمات الإجرامية التى نجحت فى التغلغل فى دوائر السلطة فى هذه الدول.
أما الفصل الأخير من الجزء الأول فهو يتضمّن لائحة مفصّلة عن نشاطات الشركات متعددة الجنسيات التى تشبه إلى حد كبير تلك التى تُدان بسببها منظمات المافيا، من بينها العمل الإجبارى للأطفال والاتجار الجنسى بهم، وبيع مواد مُضرّة ومخدرات ومنتجات زراعية وغذائية ودوائية لم يتم بعد التثبت من سلامتها الصحية (أى عمليا إجراء تجارب مخبرية على البشر).
الجزء الثانى من الكتاب يطرح بعض الأفكار حول كيفية مواجهة النشاطات الشبيهة بالمافووية التى تقوم بها الشركات، أساسا من خلال ضخ القيم الأخلاقية على أعمالها، بينها: تطبيق القيم الدينية والروحانية لكبح جماحها، وإعادة النظر بالقانون الإيجابى، وإنشاء مكتب مدعٍ عام مع صلاحيات قانونية واسعة لملاحقة الشركات التى ترتكب جرائم اقتصادية واجتماعية، وإعادة النظر بقواعد النيوليبرالية التى تضفى القداسة على السوق، إضافة إلى جعل حقوق الإنسان هى الموئل الجديد للأزمنة الحديثة، وتعزيز حرية الإنترنت وحرية التعبير فى الإعلام للسماح للعناصر المنفلتة من سيطرة الشركات بالتعبير عن رأيها بشكل مختلف.
• • •
لا يصل المؤلفان إلى درجة الدعوة إلى إحلال عولمة إنسانية أو عولمة بديلة عن العولمة التكنو ــ رأسمالية كما يطرح يساريو فرنسا والعالم، لكنهما يقتربان من ذلك حين يعلنا بكلمات مجلجلة:
«ما لم تُدخَل تغييرات عميقة على الأوضاع الراهنة، ستُفرض على الإنسان لوحة مرعبة للعالم. عالم حيث الحياة كما نعرفها ستكون قصرا على حفنة قليلة تختارها الشركات متعددة الجنسيات، ويكون فى تصرفها خدم بلا أمل أو ذاكرة».
توفيق البعينى ونيقولا فور: حفظكما الله!
Toufic Bainy. Nicolas Faure: Multinational Companies or Mafia Organizations? Towards a Banana World. Self- published via Amazon KDP (Kindle direct publishing)

 

سعد محيو  كاتب لبناني
التعليقات