الكثيرون سيصِفون السلوك الراهن لجماعة الإخوان المسلمين التصعيدى على نحو خطير، بأنه «جنون مطبق».
وهم على حق، ولكن؟
فلنبدأ أولا بلماذا هم على «حق» ثم بـ«لكن».
أول ما سيتبادر إلى الذهن هنا حول الجنون، هو احتمال اعتقاد القيادة الراهنة للإخوان بأنها قادرة على شن ثورة طويلة الأمد لإعادة الرئيس مرسى إلى الرئاسة، أو على الأقل فرض موازين قوى على الأرض تجعلها متوازنة مع قوة الجيش والقوى المدنية الداعمة له.
الاعتقاد الأول وهم، لأن حركة 30 يونيو أثبتت أن السلطوية العسكرية ــ المخابراتية الجديدة التى ترعرعت فى حضن الفشل الذريع (السياسى كما الفكرى والاقتصادي) للإخوان فى الحكم، تتمتع بزخم شعبى شبيه بذلك الذى حظيت به السلطوية الناصرية السابقة فى الخمسينيات والستينيات. وهذا سيمكّنها من تحويل أى ثورة شعبية إخوانية إلى حرب أهلية بينها وبين قطاعات واسعة من الشعب المصرى.
علاوة على ذلك، من المفترض أن تكون قيادة الإخوان قد فهمت الآن أن الظروف الدولية التى سهّلت وصولها إلى السلطة، وهى الصفقة السرية التى تمت بينها وبين واشنطن العام 2005، قد سقطت بالضربة القاضية. إذ حين وُضِعت الولايات المتحدة فى خيار حقيقى بين حليف مدنى لها وصل إلى السلطة ديمقراطيا وبين حليف عسكرى كان لستة عقود ركيزة كل «الباكس أميركانا» فى الشرق الأوسط، لم تتردد فى الانحياز إلى الثانى. وحينها لم يرف للوزير كيرى جفن وهو يعلن أن الانقلاب العسكرى المصرى هو «فى صلب العملية الديمقراطية».
أما الاعتقاد الثانى بأنه فى وسع الإخوان تعديل موازين القوى، فهو كان يمكن أن يكون صحيحا لو أن الحركة الاحتجاجية الإخوانية كانت سلمية حقا. لكن تصاعد وتائر العنف الإرهابى من أقاصى سيناء إلى قلب القاهرة مرورا بالإسكندرية والإسماعيلية، سيسقط هذا الاحتمال وسيجعل الجيش المصرى قادرا على تحويل معركته ضد الإخوان إلى حرب ضد الإرهاب. (كما فعل الرئيس بشار الأسد فى سوريا حين أطلق العنان بنفسه للجماعات التكفيرية وسهّل صعود نجمها بكل الوسائل، وكما فعلت أيضا أجهزة المخابرات الجزائرية خلال الحرب الأهلية).
●●●
الآن، وطالما أن استراتيجية الإخوان تبدو خاسرة، فلماذا إذا الحديث عن هذه الـ«لكن» التى أشرنا إليها فى البداية؟
لأن ربّ ضارة نافعة، كما يقال.
فخروج الإخوان إلى الشوارع على هذا النحو العلنى، هى ظاهرة لم تحدث على هذا النحو الجماهيرى العريض منذ تأسيس الجماعة فى 22 آذار/مارس 1928، قبل ذلك، وطيلة 85 عاما، كانت هذه حركة سرّية إلى حد كبير، ومغلقة على نفسها إلى حد أكبر، وباطنية إلى درجة لا تصّدق.
وهذا ما جعلها أشبه بمجتمع منفصل كليا عن المجتمع المدنى الأوسع الذى اعتبرته كافرا وجاهليا حينا (كما مع سيد قطب) أو على الأقل «الآخر» الذى يمكن التصرف معه بلا أخلاقية أو بلا صدق، حينا آخر.
وعلى الصعيد السياسى، كانت الجماعة قد وصلت إلى قناعة عقب صدامها العنيف مع كل من النظام الملكى فى الأربعينيات ثم النظام الناصرى فى الخمسينيات، أن أفضل وسيلة لتجنُّب قمع الدولة لها هى رفع شعار «المشاركة لا المغالبة»، وهو شعار تطابق كليا مع نزعتها إلى الباطنية والعمل السرى والانغلاق على الذات، لأنه عنى عمليا أن تشارك الجماعة فى كل أنواع العمل السياسى والاجتماعى من دون ان تكون عمليا جزءا منه.
بيد أن الصفقة مع الأمريكيين، وما تبعها من وصول الجماعة إلى السلطتين التنفيذية والتشريعية، نسف كل هذه التقاليد الباطنية، لكنه لم يغيّر فى الوقت نفسه من طبيعتها الخاصة بالانغلاق على الذات، فجاءت ممارستها للسلطة على هذا النحو الاستحواذى الشره الذى سدد ضربة مشلّة لتجربة التعددية الديمقراطية.
قيادة الجماعة لا تزال تتصرف الآن على هذا النحو غير الباطنى عبر التظاهرات العلنية. وعلى رغم من أن هكذا مسار يدفع بالبلاد إلى شبه حرب أهلية، إلا أنه قد يكون مفيدا تاريخيا لأنه قد يُخرج الجماعة من قوقعتها الانفصالية عن المجتمع، ويجعلها أكثر استعدادا لأن تكون عضوا «طبيعيا» فيه، بدل أن تفرض نفسها عليه فرضا من فوق.
●●●
بالطبع، مثل هكذا تحوّل يحتاج إلى «ثورة ثقافية» داخل الجماعة، تُصحح من خلالها قيادة جديدة متحررة من باطنية وانغلاقية الماضى العلاقة المختلة راهنا بين ما هو إيديولوجى دينى وبين ما هو وطنى مصرى، وبين مفهومى الأمة الإسلامية والشعب المصرى، وبين الشورى السلفية الضيقة التى تؤمن بها قواعد الاخوان وبين الديمقراطية التعددية التى تدّعى قيادات الجماعة الالتزام بها.
لكن، هل هذه الثورة الثقافية واردة حقا؟
ليس فى ظل القيادة «القطبية» الحالية. لكن، وعلى رغم ذلك، يجب التوقف مليا، وبتعمُّق، أمام ظاهرة خروج الإخوان من قوقعتهم الانعزالية، لأن هذا تطور تاريخى سيكون له حتما ما بعده.
لماذا؟
لأنه بات متصلا بوجود وبقاء الجماعة نفسها: فإما أن تسير الجماعة هذه على هذا الدرب فتغيّر جلدها وسلوكها، أو تتشظى كليا إما إلى مجموعات تمارس العنف أو إلى أفراد مستقيلين من الحياة والمجتمع والعالم.
كاتب وصحفى من لبنان
صاحب مدونة «اليوم ــ غدا»