حتى لو كان الإهمال والفساد هما وراء كارثة بيروت ومرفئها، فإسرائيل هى وراء هذا الوراء.
وحتى لو أثبتت التحقيقات المحلية، والدولية إن جاءت، أن الكارثة كانت حادثا عرضيا، فإسرائيل ستكون المحرّك لهذه العَرَضِية.
وحتى، أخيرا، لو اتفقت كل الأطراف المحلية والإقليمية، كلٌ لأسبابه المصلحية الخاصة، على أن الرئيس الأمريكى ترامب وقادته العسكريين أخطأوا حين قالوا إن «هجوما أو قنبلة» سبّبا 11 سبتمبر اللبنانى أو هيروشيما بيروت، إلا أنه تبقى الحقيقة بأن إسرائيل كانت هى من قام بالهجوم، أو زرع القنبلة، أو أطلق الصاروخ على العنبر الرقم 12.
لا تتسرّعوا فى الحكم على هذه «الافتراضات المؤكدة». ما نقول ليس نسخة جديدة أو قديمة من نظرية المؤامرة ذائعة الصيت، فى منطقة تعيش منذ نيف ومائتى سنة على وقع مؤامرات حقيقية (منذ مؤامرة احتلال مصر فى القرن التاسع عشر والاحتلال الغربى المالى للدولة العثمانية، إلى مؤامرة صفقة سايكس ــ بيكو السرية وإقامة دولة إسرائيل فى القرن العشرين، انتهاء بمؤامرة تفجير الإقليم المشرقى وإعادة احتلاله مباشرة أو عبر التدمير الخلاّق فى القرن الحادى والعشرين).
ما نقول يستند إلى وقائع هى فى منزلة ثقيلة من الواقعية. وقائع تقول إن الدولة العبرية تعيش هذه الأيام ما قد يكون أعلى درجات الشعور العميق بالخطر على الوجود، وعلى الدور الإقليمى، وحتى على البقاء كـ«دولة قومية عادية». وهذا قد يدفعها إلى مقامرات خطرة قد لا تخطر على بال.
***
لماذا هذه المشاعر، فيما دولة بن غوريون تبدو فى ذروة معطيات قوتها الاستراتيجية، مع انهيار كل الدول العربية المجاورة لها فى سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، ومع استمرار حجز مصر فى صندوق حديدى وإحكام إغلاقه خارجيا (إثيوبيا، ليبيا، السودان، غزة والضفة)، وداخليا (الانفجار الديموغرافى ــ الإيكولوجى المترافق مع حظر الاقتصاد الإنتاجى)، ومع ضياع البوصلة الأيديولوجية والسياسية فى الخليج بفعل تراقص تلك المنطقة على حبل مشدود بين الخوف الخارجى، الوجودى هو الآخر، من إيران ومن الانحسار الأمريكى، وبين القلق الداخلى من مضاعفات واستتباعات الحداثة والتحديث على الاستقرار الاجتماعى ــ السياسى؟
ببساطة، لأن العقل التخطيطى ــ الاستراتيجى الإسرائيلى يدرك تماما أن ما سيجرى خلال الشهرين المقبلين فى المشرق المتوسطى، أى قبل الانتخابات الأمريكية فى 3 نوفمبر، سيحددان مصير الدولة العبرية ربما لسنوات عدة:
ــ ففى حال لم تنجح تل أبيب فى جر الولايات المتحدة إلى الحرب مع إيران، خلال هذه الفترة التى تحظى فيها بإدارة أمريكية مُستعدة لفعل أى شىء تطلبه، من تهويد القدس إلى ضم الجولان والضفة مرورا بالطبع بالحرب المشتركة غير المعلنة على الداخل الإيرانى، فإن أى إدارة أمريكية جديدة حتى لو كانت برئاسة ترامب نفسه، ستكون فى وارد التعايش مع إيران نووية، والأرجح أيضا عقد الصفقات الإقليمية معها فى أفغانستان والعراق إن لم يكن أيضا فى سوريا ولبنان.
ــ إيران النووية ستولد حتما فى مطالع العام 2021. فانسحاب ترامب من الصفقة النووية معها حرّرها من القيود على تطوير قدراتها ليس فقط التقنية بل أولا وأساسا المعرفية (The know how) وحينها ستكون المسألة مسألة وقت قبل أن تتمكّن طهران من إعلان انضمامها رسميا إلى النادى النووى العسكرى العالمى، مُكررة بذلك خيار الردع الذى حذته قبلها كوريا الشمالية.
ــ وبالطبع، إيران النووية ستعنى حتما تقريبا وتباعا تركيا النووية، ومصر النووية، والسعودية النووية. وهذا سيحيل إلى رفوف التاريخ مسألة الردع النووى الإسرائيلى، ويجعل من الدولة العبرية مجرد كيان خاضع إلى موازين عسكرية تقليدية لن تكون بأى حال ملائمة لها، فى ضوء تحوّل الدول المحيطة به إلى مجتمعات مسلّحة وخبيرة بحروب العصابات التى لا تنتهى، والتى كانت حرب 2006 وحروب غزة عيّنة، لا بل مجرد عيّنة أولى، على طبيعة ونوعية الحروب الجديدة فى المشرق. هذا ناهيك عن دخول الصواريخ العابرة للمجالات الحيوية الجغرافية على خط موازين القوى الاستراتيجية، وعن مدى قدرة الجيش الإسرائيلى على توفير أثمن ما يجول فى خاطر أى إنسان يهودى: الأمن السيكولوجى الشخصى والأمان المجتمعى فى الداخل.
ــ ثم: فى العام 2021، وفى حال عدم نشوب حريق إقليمى كبير، سنكون على موعد مع تغييرات قد تكون جذرية فى موازين القوى الدولية فى المشرق، دافعها الرئيس رغبة الولايات المتحدة فى تقليص التركيز على الشرق الأوسط وأوروبا ونقل جل اهتمامها إلى شرق آسيا/ الباسيفيك التى يتركّز فيها الآن ما بين 60 إلى 70 فى المائة من التجارة العالمية. هذا التوجّه لم يبدأ مع ترامب بل مع الرئيس أوباما الذى وضعت إدارته استراتيجية «التمحور» نحو الشرق (Pivot)، والتى كانت إحدى محصلاتها الرئيسة الصفقة النووية مع إيران.
ــ وبالطبع، حين ينحسر النفوذ الأمريكى عن المنطقة، ستكون الصين وروسيا وأوروبا أكثر من جاهزة لملء الفراغ، جنبا إلى جنب مع القوى الإقليمية الرئيسية فى المشرق: تركيا وإيران ومصر والسعودية.
***
ماذا تعنى كل هذه المعطيات؟
أمرا واحدا: ما لم تشعل إسرائيل الحريق الكبير فى المشرق، من طهران إلى بيروت أو بالعكس، سيكون فى انتظارها بعد الانتخابات الأمريكية مشرق متوسطى جديد كليا لن تستطيع فيه التعرّف على نفسها لا فى المرآة ولا حتى فى تضاعيف التوراة والتلمود. مشرقٌ ستكون فيه لكل القوى الإقليمية العربية والإسلامية حصص كبيرة فى نظامه الإقليمى للمرة الأولى منذ انهيار الدولة العثمانية غداة الحرب العالمية الأولى. وهذا سيكون بعينه كابوسا استراتيجيا داخل الكابوس السيكولوجى الذى أبدع أحمد داوود أوغلو فى وصفه (فى كتابه «العمق الاستراتيجى») حين قال إن كل جهود السلام فى الشرق الأوسط لن يكون لها من طائل، لأن المشكلة لدى يهود إسرائيل نفسية فى الدرجة الأولى: التناقض بين كونهم شعب الله المختار وسادة العالم، وبين كراهية شعوب العالم لهم ومشاعر الاضطهاد التى يعيشونها من دون توقف منذ 2000 سنة.
إيران تدرك جيدا على ما يبدو هذه المعطيات الإسرائيلية. ولذا تمارس ضبطا للنفس خارقا للعادة وفق كل المعايير، على رغم الضربات المُوجعة التى تتلقاها فى الداخل الإيرانى وسوريا (لا ننسى هنا ضربة قاسم سليمانى المدمّرة) لدفعها إلى الرد وبالتالى للانخراط فى حرب إقليمية. وهذا ما يدفع تل أبيب إلى التخطيط لضربات لن يكون أمام إيران من مناص أمام شعبها سوى التفاعل الانتقامى.
أين ومتى قد يحدث ذلك؟
خلال الشهرين المقبلين.
هل أدركنا لماذا كارثة بيروت تحمل دمغة «صُنِعَ فى إسرائيل»؟