عندما تفشل مجتمعات فى منع حدوث الانتهاكات الحقوقية والإنسانية بحق الأقليات الدينية أو المذهبية أو الثقافية من مواطنيها فإن عليها أن تفتش فى أعمق أعماق مكونات وجودها عن الأسباب والمهيئات لحدوث تلك الانتهاكات.
هذا هو واقع دول ومجتمعات العرب فى حاضرهم الذى يعيشون. وهو ما يُرى فى أبهى صوره فى ارتكاب التهجير والمجازر واغتصاب النساء بحق المواطنين المسيحيين العرب أو فى احتلال ميليشيا شيعية لقرية سنية أو فى احتلال ميليشيا سنية لقرية شيعية. فى بشاعة وحقارة وفسق تلك الصور ينجلى الجانب المتقيح فى مكونات الوجود الاجتماعى العربى.
***
الدلائل كلها تشير إلى أن التهيئة لارتكاب تلك البشاعات تبدأ فى القراءات المتخلفة والفهم اللامعقول، التاريخى والحاضر، لمنطوق الوحى الإلهى فى الدين الإسلامى من جهة، وتنتهى فى إصرار أعداد لا حصر لها من الملقبين بالأئمة والفقهاء، والعلماء وآيات الله وحجج الإسلام والمجاهدين وأمراء المؤمنين ومنقذى ومجددى الدين عند رأس كل قرن.. إلخ.
إصرارهم على تعيين أنفسهم كوسطاء ومعلمين وميسرين وشارحين ومشرعين بين الخالق والمخلوقين.
وهكذا تبعد المسافة بين المسلم وربه الرحيم الغافر الذنب المتسامح المحب بينما تصغر المسافة بينه وبين زمرة المتوسطين المتزمتين المتعصبين عن جهالة، غير المتسامحين بانتهازية ونفعية المنصبين أنفسهم بأنفسهم على أنهم الحماة الوحيدون لمشيئة الله ووحيه ورسالته، الذين أغرقوا الرسالة البسيطة الموجهة لفطرة الإنسان الفرد البسيط فى لجج من مدارس وشروحات وتفسيرات فقهية بشرية، ألبسها بعض من أصحابها وكثير من أتباعها لباس القدسية والدلالة المؤكّدة للفرقة الناجية.
وهكذا تكونت إشكالية كبرى فى ثقافة الإنسان العربى وترسخ مرض فى عقول المجتمعات العربية. أما الإشكاليات فيجب أن تحل وأما الأمراض فيجب أن تعالج. والحل هو الإسراع بإصلاح المجالات التى أقحم الدين الإسلامى فيها بحسن نية وبجهل، إذ لا مشكلة فى جوهر الدين نفسه والمقاصد الكبرى لرسالته.
ومن البداية يجب التأكيد بأن الورع الدينى الذى تتميز به مجتمعات العرب لن يرفض محاولة إصلاحية تستند إلى العقل والعلم وتحترم التقوى الروحية وذلك بالرغم من التطرف والتخبط الذى تمارسه بعض حركات الإسلام السياسى المتطرفة وجماعات الجهاد التكفيرى العنفى.
***
قضية الإصلاح ثم التجديد فى المجال الدينى، من مثل مراجعة مكونات وآليات ومناهج علوم الحديث والفقه، مضى عليها أكثر من قرن ونصف وهى تراوح مكانها. الأسباب واضحة. فهى أولا اعتمدت فى معظمها على جهود فردية أو مؤسسية محددة النفوذ والسلطة. وهى ثانيا اعتمدت على سلطات دول، هى إما غير مقتنعة بضرورة الإصلاح أو مكتفية بالاستعمال الانتهازى للدين فى صراعات السياسة أو فى أحسن الأحوال قانعة بإصلاحات جزئية ترقيعيه مظهرية محدودة.
والنتيجة هى أن ذلك الإهمال الذى مارسته سلطات الدول للبدء بعملية إصلاح حقيقى، قائم على العلم والعقل ودروس التاريخ، ومبتعد عن مماحكات السياسة ونفعيتها، قد أدى إلى الوضع المأساوى الذى أمامنا:
عنف وإرهاب وتضليل وملاسنات وأكاذيب سممت المجال الدينى وأدخلته فى تيه التعصب والجنون وانتهاكات حقوق الناس وانتهازيات السياسة.
وعندما نضع اللوم الأكبر على الدولة العربية فلأنها الأقدر على القيام بعملية إصلاح شاملة. لكن ذلك لا يعفى الأحزاب السياسية الإسلامية الإصلاحية ولا المرجعيات الدينية شبه المستقلة ولا الجماعات الثقافية الإسلامية.
لا يسمح المجال للدخول فى تفاصيل متطلبات هذه العملية الإصلاحية التى صدرت طيلة القرن الماضى مئات المؤلفات الرصينة بشأنها. لكنها لن تثمر إصلاحا حقيقيا وعميقا إن لم تتوافر لها المتطلبات الآتية:
أولا: إخراج منطوق الوحى الإلهى من قبضة التاريخ، ليعود إلى حالة طهارته وبساطته وتوجهه المباشر إلى النفس الإنسانية العاقلة المكلفة المستقلة عن ادعاءات الوساطات والإملاءات. إن ذلك سيتطلب بدوره وجود مراكز بحوث ودراسات فى الإسلاميات، تضم إضافة إلى علماء الدين علماء متخصصين فى ميادين علوم التاريخ والاجتماع والنفس واللسانيات والطبيعيات وغيرها. وهو ما سيجعل الدراسات الإسلامية تستعمل المناهج الحديثة وتستفيد من منجزات علوم العصر.
ثانيا: معالجة كل أنواع الخلل فى منظومة التعليم الدينى التخصصى، ومنظومة التثقيف الدينى المدرسى والجامعى، ومنظومة الإعلام الجماهيرى الدينى، ومنظومة الاجتهاد الدينى ومنظومة العمل السياسى الدينى، وذلك كله من أجل هدف جعل مجال الدين ملكية تخص الأمة كلها وعموم المجتمع، وتمنع الاستحواذ عليه من قبل فئة أيا يكون مسماها، أو ممارسة بيعه وشرائه فى عوالم السياسة والصراعات الأيديولوجية المختلفة.
ثالثا: تنفيذ تلك العملية الإصلاحية من خلال مبادئ العدالة، والحرية المسئولة، وتعايش الأفكار المتعددة، والاحتكام إلى القوانين، والمساواة بين المواطنين. وذلك لأن الدين يفسده المجتمع الفاسد.
***
إصلاح المجال الدينى سيساهم إلى حدود كبيرة فى تسهيل إصلاح مجالات السياسة والاجتماع والثقافة فى وطن العرب المريض المأزوم المنهك.