منذ بضعة أيام قامت جمعية النهضة فى تونس بمحاولة تطوير للفكر السياسى الإسلامى عندما قررت فصل أنشطتها الدعوية الدينية عن نشاطها السياسى من أجل أن تصبح حزبا سياسيا مدنيا ينطلق من القيم الإسلامية، كإحدى مرجعياته، ولكنه يفصل ممارسة السياسة عن ممارسة الدين.
والذى فعلته جمعية النهضة هو جزء مكمل لقبول الإسلام السياسى بالديموقراطية منذ بضع سنوات، وذلك بعد عقود من رفض تبنيه للديمقراطية على أساس أنها نظام مخالف للإسلام فى بعض ممارساته والمبادئ التى ينطلق منها.
كان أقصى ما كان يقبله الإسلام السياسى هو مبدأ الشورى الإسلامى بتفاسير معانيه المختلفة وقراءاته الفقهية المتعارضة أحيانا. لكن أجزاء هامة من الإسلام السياسى قبلت فى النهاية فكرة تساوى الشورى مع الديمقراطية.
والأمر نفسه حدث بالنسبة لقبول التعايش مع الفكر القومى، وبالأخص العروبة كهوية لا تتعارض مع الهوية الدينية الإسلامية، والوحدة العربية كهدف لا يتعارض مع شعار الوحدة الإسلامية، بل وحتى المبادئ الاشتراكية قبل بها البعض لانسجامها مع انحياز الرسالة الإسلامية الإلهية للفقراء والمستضعفين.
إذن، وبموضوعية تامة، جرت محاولات على مستوى الفكر والشعارات السياسية لتطوير ما سماه أصحابه بالفكر والتنظيم الإسلامى فى الساحة السياسية.
على ضوء تلك الخلفية، المتمُمة لمحاولات سابقة من قبل بعض الإصلاحيين الإسلاميين من أمثال الكواكبى وعلى عبدالرزاق وعلال الفاسى وغيرهم كثيرون، لإيجاد تفاهم وتناغم بين الإسلام وبين أفكار وشعارات الحداثة.. على ضوء ذلك يحار الإنسان فى كتابات وأحاديث البعض، وهم يقيمون خطوة جمعية النهضة. البعض يصفها بالكاذبة والبعض الآخر يصفها بالانتهازية، وأنها ليست إلا تقنية مؤقتة إلى حين تهدأ العواصف الحالية فى أرض العرب.
ويذهب البعض إلى حدود التشكيك فى نوايا قادة الجمعية والتنبؤ برفض قريب وثورات من قبل قواعد هذه الجمعية.
***
والسؤال الذى يطرح نفسه بقوة هو: لماذا يكثر المتحذلقون فى أرض العرب للتشكيك فى كل محاولة للخروج من صعوبات الوضع العربى؟ فإذا حاول البعض تكوين تيار وحدوى يضاد التجزئة العربية ويدعو إلى قيام أمة واحدة ووطن واحد قيل لهم إنهم حالمون وأطفال يتسلُون.
وإذا حاول البعض تقريب المذاهب للخروج من الانقسام الطائفى الحقير اعتبر عميلاً لهذه البلاد أو ذلك النظام. وما أن أخفقت بعض حراكات الربيع العربى المنادية بالحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية حتى انبرى أولئك المتحذلقون فى الشماتة وفى لعن شباب الأمة الذين يتهمونهم بأهل الفوضى، بل وحتى أعلنوا بأن هذه الأمة لا تصلح الديمقراطية لحكمها وإنهاضها.
لكن، هل أن المراجعة هى فهلوة وانتهازية؟ بالطبع هذا اتهام ظالم. فالواقع أنه لا توجد أيديولوجية أو أفكار أو أنظمة فى عصرنا إلا، وتخضع للمراجعة. هناك مراجعة نقدية للأفكار والحركات والأحزاب القومية العربية بسبب أخطائها وإخفاقاتها السابقة.
هناك مراجعة للأفكار الاشتراكية والأحزاب الماركسية بسبب خطاياها التاريخية وما أحدثه بعضها من كوارث. وهناك الآن مراجعة جادة للرأسمالية والحداثة، خصوصا النيوليبرالية العولمية المتوحشة.
كل شىء يخضع الآن للمراجعة، فلا ينبرى المتحذلقون للغمز واللمز واتهام المراجعين. فلماذا لا يعطى الإسلام السياسى فرصته للنقد الذاتى وإجراء المراجعة ومحاولة التفاهم مع العصر؟
لسنا هنا بالطبع معنيين بالدفاع عن الإسلام السياسى، فقد ارتكبت تنظيماته وأحزابه الأخطاء والخطايا البائسة وفقدت الكثير من شعبيتها، بل إن بعضها أصبح مكروها، وسيحتاج لعقود الإصلاح ما فعلته بلادات بعض قياداته.
لكننا هنا معنيون بإعطاء الفرصة الحقوقية الديمقراطية لكل من يريد إجراء المراجعة والنقد الذاتى من أجل تجاوز سلبيات الماضى للانتقال إلى دفئ العمل السياسى السلمى المدنى المطلوب بشدة لإخراج أمة العرب من ورطتها التاريخية، التى تعيشها.
لنذكر أنفسنا بأن الإسلام فى قلب الثقافة العربية، والثقافة فى قلب السياسة، والمصالحة مع العصر ستكون مسيرة طويلة.