ساعدتنى رواية «الشعلة الخفية للملكة لوانا» للكاتب الإيطالى الشهير أومبرتو إكو على النجاة من أيامنا الراكدة والإفلات الجزئى من أخبار كورونا عبر الارتداد إلى تاريخ غنى بالأسئلة التى لم تكن بعيدة عن الحاضر.
صدرت للرواية هذا الأسبوع طبعة مصرية عن مكتبة تنمية بالتعاون مع دار الكتاب الجديد وبترجمة ممتازة معاوية عبدالمجيد الذى صار وجود اسمه على غلاف كتاب شهادة ضمان لجودة الترجمة.
صدرت الرواية فى لغتها الأصلية عام 2005، وأُحبط إكو من استقبالها الفاتر؛ حيث ظلت أقل رواياته مبيعا لأن القراء كانوا يطالبونه دائما برواية فى مستوى «اسم الوردة» التى ظل منزعجا من نجاحها الذى حجب أعماله الأخرى، ومثلما أحب إكو روايته تورطت أنا أيضا فى محبتها وبإفراط، ومن يعرف عالم الكاتب يدرك أن الرواية تتقاطع تماما مع ذاكرته، حتى أنه يكاد يكون بطلا متخفيا تحت قناع بطلها.
يفرط إكو فى الولع بتقنية المخطوط أو بتوليد نص من نصوص مختلفة وإلى أن مات ظل يكتب مثلما يفعل صناع العلب الصينية أو دمى الماتريوشكا اللانهائية، فداخل كل علبة كبيرة توجد علبة أصغر، وهكذا يتناسل نصه فى شبكة لا نهائية من الحكايات والعلاقات.
تقوم الرواية على محاولة البطل بائع الكتب والمخطوطات القديمة لاستعادة جزء من ذاكرته التى فقدها فى حادث واستجابة لنصيحة زوجته الطبيبة النفسية (باولا) يعود إلى البلدة التى ولد فيها (سولارا)؛ حيث يقضى فترة نقاهة بصحبة مديرة البيت (أماليا).
وخلال تجواله فى غرف بيت طفولته؛ حيث عاش مع جده الكبير الذى أورثه عشق الكتب يتمكن من إيقاظ ماضيه والإمساك بـ(شعلة الملكة لوانا الخفية) التى نكتشف قرب نهاية الرواية أنها بطلة ألبوم مصور سحر البطل فى طفولته، ولكنه يكتشف بعد خمسين عاما أن هذا الألبوم كان سخيفا وربما اكتسب خلوده لتزامنه مع قصة حب تعلق بها فى مراهقته مع (ليلا) التى ماتت صغيرة فى المهجر دون أن يدرى.
يبدو بيت الجد فى الرواية كمتاهة فعلية ونصية، لكن غرفها مليئة بالعلامات التى تعينه على استعادة ذاكرته التى يصعب فض ارتباطها بذاكرة بلاده التى عاشت تحولات قاسية منذ دخول العصر الفاشى وحتى واقعنا الحالى.
وخلال جولات محمومة لا تنتهى داخل الغرف يفهم المواقف السياسية لجده ولوالده الذى كان يحارب الأعداء على الضفة الأخرى كما تنمو داخله بذرة الشك لتصبح غابة، فالشعلة تشعل اللهب فى الماضى.
لا شىء فى الرواية ــ كما نقرأ ــ خارج لعبة السؤال والمراجعة، صور العائلة والوطن والأصدقاء وكذلك التصورات الموروثة عن الدين والتقاليد،
وبحس المؤرخ تصبح رواية إكو فى مجملها مراجعة لمفهوم الماضى ومجرد حساب معه وفضح لآليات السلطة فى صناعة تصورها عن الأعداء، إنها رواية تنمى الشعور بدروس التاريخ من أسفل لأنها تناهض الروايات الرسمية عن الأحداث الكبيرة وتهزمها.
وبخفة لا متناهية يقدم الكاتب درسا فى الكتابة يقوم على استعمال اللغة البسيطة غير المعقدة وصياغة سردية تنتمى إلى الأنثروبولوجيا الثقافية أكثر من الانتماء إلى الرواية فى شكلها المعروف والمتوارث؛ لأنها تتيح طبقات من المعارف المتنوعة التى يصعب حصرها فى مجال واحد، ويثبت إكو كذلك أن كل ما حولنا يصلح موضوعا للكتابة الروائية، فما يستعرضه البطل يخلق جدارية من شذرات لأرشيفات متنوعة صنعت ذاكرة جيله بعضها ينتمى لفئة القصصة المصورة والبعض الآخر لدفاتره المدرسية التى كانت تقبع فى (علية البيت) ومعها موضوعات (الإنشاء) كتبها استجابة لما كان يتلقاه فى حصص التربية الوطنية وأرشيفات الروائح والبرامج الاذاعية والموسيقية التى صنعت مخيلة «طفل فى زمن الفاشية».
ما يريد إكو أن يصل إليه هو أنه من الضرورى عندما يبلغ الإنسان حدود النهاية أن ينظر فى الماضى القابع خلف ضباب ذاكرته ولعل كلمة الضباب واحدة من أكثر الكلمات استعمالا داخل النص وبدلالات تتنوع بتنوع المصادر التى يتكأ عليها النص (متعدد الخلايا).
وحده إكو الذى بإمكانه كتابة هذه السردية التى تحتاج كاتبا لديه نفس ما لدى البطل من اهتمامات وعلينا أن نتذكر أن أحد الصحفيين وصف مكتبة منزله فى ميلانو بـ«الحصن»، الذى يضم 32 ألف مجلد و١٢٠٠ مخطوطة نادرة.
حكى إكو أكثر من مرة عن تأثره الشديد بجده صاحب المطبعة الذى على الرغم من عدم معايشته له، إلا أنه ترك تركة من الكتب ظلت قابعة داخل صناديق فى قبو منزل العائلة وذات يوم فتح إكو أحد الصناديق فعثر على كنز من المؤلفات ومنذ تلك اللحظة بدأ رحلته وأدرك أن القراءة هى «خلود ارتدادى»، أما الكتب فهى «ممرات العقل».