ما زال الانقسام حادا فى الوطن. ولن تحقق ولاية الدكتور مرسى الراحة المنشودة للمصريين لكى يبدأوا رحلة البناء والنهوض، ذلك لأنه يواجه معضلتين تستعصيان على الحل، أولاهما أنه لا يزال موزعا بين واجبه نحو وطن اختاره بنصف الأصوات وبين التزامه بجماعة لا ينتمى برنامجها لمصر ولكن لحلم أممى غير قابل للتحقيق، لو سار عليه فستدفع مصر فيه كل وجودها لأنه ضد المنطق وضد التاريخ. والمعضلة الأخرى التى يواجهها الرئيس وجماعته هى أنه وصل إلى مقعده بشراكة غير مقدسة مع عسكريين غربت شمسهم وأطفأها هو بنفخة بسيطة، كما أنه حظى بمباركة خارجية يتشكك المصريون جميعا فى نواياها، وهو ما يشكل عطبا جوهريا فى شرعية رئاسته ويتركها مبتسرة شائهة.
وسوف تقابل الحملة المكثفة لبسط سيطرة الإخوان على كل مفاصل الدولة المصرية بمقاومة عنيدة ستستنزف قوى المجتمع وتضيع معها فرص التقدم، وعندها تنقض علينا صقور جارحة تنتظر فى صبر وترقب. وحتى لو نجحت هذه الحملة، وتمكنت من السيطرة وأخرست كل الأصوات المعارضة فستبدأ مقاومة المصريين بحائط السلبية المنيع الذى هزموا به عبرالتاريخ كل اشكال الحكم الإستبدادى كحملة نابليون والاحتلال الإنجليزى وطغيان مبارك.
ومما يثير الأسى أن توجهات الرئيس الجديد فى مجالات السياسة الخارجية والإصلاح الداخلى تكاد تكون متطابقة مع توجهات النظام البائد، بل وتتراجع عنها فى مجالات مثل حرية التعبير وكتابة دستور دولة دينية بالقوة ضد مختلف طوائف الشعب، وفى التراخى المستمر فى مواجهة مظاهر الفتن الطائفية والتطرف الدينى، وفى التدهور المتصاعد فى الخدمات الأساسية كالمياه والكهرباء. إن استمرار إدارة الرئيس مرسى على نفس محاور النظام البائد هو دليل على افتقار دعوة الإخوان إلى رؤية عصرية للتطور وعلى أنها مكبلة بارتباطات ضمنية مع القوى الخارجية، وها هى تعتمد نفس سياسة الاقتراض والاستجداء التى جربناها على مدى أربعين عاما دون أى تقدم حقيقى بدلا من الاعتماد على أنفسنا لتحقيق البناء والنهوض.
•••
إن الترجمة العملية لانتفاضة المصريين بثورة 25 يناير كان يجب ان تكون فى خطين أساسيين:
أولهما فض اشتباك ممنهج بدون تشنج أو عنتريات مع معسكر الهيمنة الأمريكية والرجعية العربية، ووقف التراجع المستمر أمام ضغوط إسرائيل ومؤامراتها على الأمن القومى المصرى فى أفريقيا، وفى سيناء، وذلك بمد الجسور مع إخواننا فى أفريقيا ومع حلفائنا التقليديين فى العالم مثل الهند والصين وروسيا وأيضا مع إيران وحتى مع تركيا رغم مواقفها المتضاربة.
وثانيهما بدأ عملية النهضة الحقيقية بمشروعات عملاقة لبناء المدن الجديدة بالإمكانات الذاتية ــ وما أكثرها ــ لاستيعاب ملايين المصريين الذين تختنق بهم الشوارع، فنأخذ من أيديهم الصنج والمطاوى والمسدسات ونضع فيها أدوات البناء والصيانة، ولنزرع آلاف الأفدنة بالقمح ولنمد أيدينا لإخوتنا فى كل السودان وفى إثيوبيا وأوغندا وباقى دول حوض النيل لنكون كونفيدرالية إنتاج وتقدم ضخمة تربط العلم بالبيئة والثقافة بالأمن، وتضع مصر على موقع متقدم وقوى فى خريطة العالم الجديد الذى يتخلق مع بداية هذا القرن.
•••
إن الثورة التى قامت تعطى أى قائد الدعم الكافى لكى يغير من مسار السفينة نحو آفاق جديدة بدلا من إضاعة الوقت والجهد فى إحكام السيطرة على سفينة توشك على الغرق.
إن الثورة التى فجرت أروع ما فى المصريين كانت جديرة بأن تتخلى النخبة عن الخلافات والانقسامات التى تغذيها الطموحات الشخصية والشكوك المتبادلة، وأن تنتبه للأخطار المحدقة وتسعى لتقديم البدائل الإستراتيجية للسياسات الأممية لجماعة الإخوان التى تسعى للمغامرة بمستقبل البلاد فى سبيل أحلام إمبراطورية مستحيلة التنفيذ. إن على دعاة الدولة المدنية دور تاريخى حتمى فى بلورة البديل المتماسك فكريا والقوى بالتواصل مع الشعب لمجابهة هذه التوجهات وهو دور يحتاج لوضوح الرؤية لما يجرى ولما ينبغى عمله. إننا مطالبون جميعا بالاتحاد فى جبهة واحدة لمواجهة قوى الدولة الدينية، وتقديم البديل الثورى لتغيير سياسة مصر الخارجية كى تدعم برنامج بناء داخلى متكامل يقوم على العدالة الاجتماعية والاعتماد على الجهود الذاتية وعلى الإنسان المصرى.
ألا يدعو للخجل أننا بعد أن خرج المصريون جميعا يطلبون العيش والحرية والكرامة الإنسانية نجد أنفسنا، وقد تراجعت مطالبنا إلى حماية حق التعبير وتقنين أوضاع جماعة الإخوان المسلمين، وكأن ذلك هو غاية المراد من رب العباد. وأليس مثيرا للأسى أن ينخرط المجتمع فى حوار عقيم حول المادة الثانية لدستور تجرى أدلجته فى وجه العلم والمنطق والحضارة، أليس القانون الوضعى المستنير بثقافة المجتمع هو فى صميم شئون الدنيا كما أرشد الرسول الكريم، وهل ننخرط فى حوارات السفسطائيين حتى تدهمنا الداهمة؟
هل نفيق؟