حتى الآن، لا أحد يمكنه التكهن بما سوف يحدث على الحدود اللبنانية الإسرائيلية فى الأسابيع المقبلة، هل ستندلع حرب كبيرة بين حزب الله وإسرائيل؟ أم سيكتفى الطرفان بمواجهتهما المحدودة التى جرت أمس الأول وأسفرت عن تدمير قوات الحزب لآلية عسكرية إسرائيلية وقتل وإصابة ما بها من جنود؟
صحيح أن طبول الحرب بين الطرفين لم تستمر سوى عدة ساعات، لكنها كانت كافية لكى تضع السياسات الرسمية العربية لحل أزمات المنطقة ومشاكلها فى موضع اختبار صعب، فالاستراتيجيات العربية التى أقرتها غالبية النظم العربية خلال السنوات الخيرة اعتبرت أن إيران وحلفاءها فى المنطقة هم العدو الأول لها، فى نفس الوقت الذى بدأت فيه هذه النظم فى مد خيوط التواصل مع إسرائيل عبر العديد من المبادرات والتنازلات والزيارات السرية التى أصبحت فى نهاية المطاف علنية، فلم تعد إسرائيل هى الخطر الذى يهدد الشعوب العربية، ولم تعد هى الدولة التى سلبت أرضنا العربية فى فلسطين وشردت شعبها، ولم تعد الدولة التى تشن الحروب على جيرانها وتدبر المؤامرات ضدهم لكى تهيمن على جميع أرجاء الإقليم، بل أصبحت الدولة التى يمكن أن تشارك بعض الحكومات العربية فى صنع السلام والرخاء ،وتضمن لها ايضا استمرار الرضا الأمريكى ، فى حين أصبحت إيران فجأة هى الخطر الشيعى الذى يتمدد فى بلاد السنة فى سوريا والعراق واليمن ولبنان والذى يثير القلاقل بين شعوبها، وأصبحت مواجهتها واجبا شرعيا دفاعا عن الدين والشريعة، وكسبا أيضا لرضا إدارة الرئيس الصهيونى دونالد ترامب!.
هذا الانقلاب الاستراتيجى فى السياسة العربية يتعارض على طول الخط مع مصالح الشعوب العربية، فالخطر الإيرانى لن يكون فى أبعد مدى له سوى نقطة فى بحر الأخطار الإسرائيلية، بل إن هذا الخطر الإيرانى يمكن التعامل معه على المستوى الدينى بإعادة الروح لمبادرات التقارب بين المذاهب والتى أقرها الأزهر الشريف منذ أكثر من 100 عام، والذى اعترف بالمذهب الشيعى الإثنى عشرى والذى كان يتم تدريسه للطلبة الأزهريين، فى حين تبدو أطماع إسرائيل مستمرة فى المقدسات الإسلامية فى فلسطين المحتلة وعلى رأسها المسجد الأقصى الذى تزعم أنه مبنى فوق هيكل سليمان، وحتى لو سلمنا بأن إيران ستتعنت فى احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث، لكنها لن تقارن باحتلال إسرائيل لدولة عربية كاملة وأجزاء من دول عربية أخرى وتقصف ما تشاء من مقرات وقوات من ترى أنه عدو لها فى العراق ولبنان وسوريا، وتتماهى مع تصورات اليمين الأمريكى الحاكم بحتمية نشوب حرب كونية عظمى تبيد كل شعوب المنطقة بل والعالم كله، أو فى أحسن تقدير تجعل من يتبقى منهم عبيدا لها!
ما نحتاجه فى المنطقة لكى نسير على الطريق الصحيح هو السعى لبناء تحالف استراتيجى مع إيران، نضع خلاله خلافاتنا المذهبية فى حجمها الحقيقى، ونبحث عن القواسم السياسية المشتركة بيننا ونعظم من شأنها، ونتفق على آليات لحل الإشكاليات العالقة لكى نوحد صفوفنا فى مواجهة عدونا المشترك، وأن نقف خلف كل لبنان في تصديه للعدوان الإسرائيلى .
الثروات والإمكانيات العربية والإيرانية قادرة على بناء هذا التحالف وتحقيقه لكل أهدافه، لكنه يحتاج إلى إرادة سياسية لا تتوافر لدى معظم النظم العربية حاليا، كما يحتاج أيضا من إيران إلى إجراء تغييرات جوهرية فى الكثير من توجهاتها السياسية ومحاولات تغلغلها فى البلاد العربية، ومساندتها العسكرية للأطراف الموالية لها فى هذه البلاد، وقبل كل ذلك توفير بيئة سياسية ديموقراطية تتيح لشعوب الأقليم المشاركة فى صنع القرار من الألف إلى الياء.