يخطئ من يظن أن سياسات إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب تجاه الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وحوض النيل ومنطقة القرن الإفريقى تتقاطع فقط على نحو سلبى مع مصالح مصر وأولوياتها الخارجية فى جوارها الممتد وفى الأقاليم الحيوية لأمنها القومى.
فقد طغت على السطح السياسى والدبلوماسى فى الآونة الأخيرة التباينات بين الولايات المتحدة وبين مصر بشأن غزة التى اشتعلت بها الحرب مجددا، والضفة الغربية التى يتسع فيها نطاق العنف، ومجمل أحوال الشعب الفلسطينى الذى يواجه أوضاعا إنسانية كارثية وأخطار تهجير محدقة ومحاولات ممنهجة لتصفية حقوقه الوطنية.
غير أن التباينات بشأن فلسطين، ومهما بلغت حدتها، يتعين ألا تدفع الحكومة المصرية بعيدا عن الحوار المستمر مع الإدارة الأمريكية إن بشأن سبل العودة إلى وقف إطلاق النار فى غزة أو فرص تفعيل الخطة المصرية ــ العربية لإعادة الإعمار أو إحياء مفاوضات سلام بين إسرائيل والجانب الفلسطينى أو التفكير فى إجراءات ممكنة لاستعادة السلم والأمن فى الشرق الأوسط.
من جهة أخرى، لا ينبغى أبدا للتباينات بين الطرفين الأمريكى والمصرى بشأن فلسطين أن تحول دون النظر إلى الفرص القائمة بالفعل للعمل المشترك والاشتباك الإيجابى بين البلدين فى مساحات إقليمية أخرى تؤثر على مصالح الولايات المتحدة وتقع فى موقع القلب من مصالح مصر وأمنها القومى.
ففيما خص أمن البحر الأحمر واستقرار خطوط الملاحة القادمة والعابرة لهذا المجرى المائى الحيوى من جنوبه عند مضيق باب المندب إلى شماله عند قناة السويس، يتفق الطرفان الأمريكى والمصرى على حتمية توقف جماعة الحوثى اليمنية عن هجماتها العشوائية على السفن التجارية والعسكرية وضرورة انتهاء التهديدات الناجمة عنها والتى أسفرت عن تراجع كبير فى ملاحة البحر الأحمر، وأضرت بحركة التجارة العالمية، واستنفرت الولايات المتحدة وقوى كبرى أخرى للرد عسكريا على صواريخ ومسيرات الحوثيين، وأضرت بإيرادات مصر من قناة السويس.
الإدارة الأمريكية انتقلت منذ عدة أسابيع من الرد الجزئى إلى الرد الشامل على الحوثى وصارت تستهدف القضاء على القدرات الصاروخية والعسكرية للجماعة المدعومة إيرانيا (عملية «الراكب الخشن» التى شرعت فيها القوات الجوية والبحرية الأمريكية فى مارس الماضى وتتواصل إلى اليوم)، والحكومة المصرية تتحرك دبلوماسيا فى الشرق الأوسط لاستعادة الهدوء وحث الجميع على ضبط النفس (تصريحات المتحدث الرسمى للخارجية المصرية بشأن تواصل حدث فى ١٠ أبريل الحالى بين وزيرى خارجية مصر وإيران) وتتحرك إقليميا ودوليا لبناء توافق واسع بين الدول المؤثرة (إقليميا، السعودية والإمارات وتركيا وإيران وإسرائيل) والدول الكبرى صاحبة المصلحة فى استقرار البحر الأحمر (بجانب الولايات المتحدة، الصين والهند وروسيا والاتحاد الأوروبى وبريطانيا) بشأن إجراءات جماعية لتأمين الملاحة وحفظ السلم.
* * *
فيما يتعلق بوضع السودان، جارنا الجنوبى الذى يعانى منذ ٢٠٢٣ من حرب أهلية كارثية، تتفق الإدارة الأمريكية والحكومة المصرية على أولوية وقف سريع للقتال دون السماح بانفراط عقد البلاد أو بانهيار المؤسسات الوطنية، وعلى أولوية التعامل بفاعلية مع أخطار المجاعة وغياب الأمن والارتحال التى تحيط بالشعب السودانى وتدفع شريحة واسعة منه إلى البحث عن ملاذات آمنة (فى مصر وفى بلدان الجوار الأخرى)، وعلى أولوية إطلاق عملية سياسية جامعة تؤسس للاستقرار والعيش المشترك والتنمية المستدامة.
فى سبيل هذه الأولويات، تشترك واشنطن والقاهرة فى المطالبة بمنع بيع أو توريد السلاح للميليشيات (خاصة قوات الدعم السريع التى تصلها الأسلحة من مصادر إقليمية ودولية متنوعة) وفى تحفيز قيادة الجيش الوطنى على الربط بين العمليات العسكرية التى مكنتها فى الآونة الأخيرة من استعادة السيطرة على العاصمة الخرطوم ومدن ومناطق أخرى وبين الشروع فى إجراءات للمصالحة الوطنية والابتعاد عن الممارسات الانتقامية تجاه أتباع الميليشيات المهزومة.
بل إن الإدارة الأمريكية، وهى تفكر حاليا فى مدى جدوى تعيين مبعوث خاص أو منسق رئاسى لشئون السودان وشرق إفريقيا ومنطقة القرن الإفريقى، تبدو منفتحة (خاصة وزارة الخارجية) على إحياء حوار بين الوسطاء الإقليميين (بمشاركة مصرية وسعودية وإماراتية وإثيوبية وكينية وربما بمشاركة جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقى) والدوليين (بمشاركة الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبى وربما روسيا وباحتمالية أقل الصين) حول سبل إنهاء الحرب الأهلية والتوافق حول خطط المصالحة الوطنية وإعادة الإعمار. ولا تبتعد الرؤية الأمريكية هنا عن التفضيل المصرى لدمج كل الفرقاء الإقليميين والدوليين أصحاب المصالح المختلفة فى السودان (من المصالح الاقتصادية والتجارية إلى المصالح الأمنية ومكافحة الإرهاب) فى إطار مؤسسى يتوسط بفاعلية بين أطراف الحرب ويبحث عن المساحات المشتركة بين مصالح متنازعة أرهقت السودان وقضت مضاجع شعبه.
* * *
ما يقال عن السودان، يتعين الدفع به فيما خص ليبيا التى تتلاقى المصالح الأمريكية والمصرية على تنشيط الوساطة الإقليمية والدولية لفرض حالة من الاستقرار على أوضاعها، وتفعيل عملية سياسية جامعة تستعيد عافية المؤسسات الوطنية وتوحدها بشقيها المدنى والعسكرى وتبعد عن التراب الليبى الميليشيات المسلحة والقوات الأجنبية وتفتح آفاق التوافق المجتمعى.
* * *
لا تقتصر فرص التنسيق والتعاون بين الولايات المتحدة ومصر فيما خص قضايا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على أمن البحر الأحمر ووضع السودان وليبيا، بل تمتد إلى ملف سد النهضة الإثيوبى وموارد نهر النيل المائية ومضامين توزيعها العادل بين دول المنبع ودول المصب دون إخلال بالحقوق التاريخية والمتطلبات التنموية لأى من المجموعتين، وكذلك دون إخلال بالقواعد المعمول بها دوليا لاقتسام مياه الأنهار متعددة الأطراف (والتى تنادى مؤسسات كالبنك الدولى وصندوق النقد الدولى وكيانات كبرى كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى بالالتزام بها وحل المنازعات وفقا لها).
فخلال إدارته الأولى (٢٠١٦ ــ ٢٠٢٠)، قاد الرئيس دونالد ترامب (وبمشاركة المسئولين المعنيين فى مجلس الأمن القومى ووزارة الخارجية وممثلين عن البنك الدولى) جهود الوساطة بين مصر والسودان وإثيوبيا للتوصل إلى «اتفاق نهائى» بشأن سد النهضة ومياه النيل يتضمن «آلية ملزمة لتسوية جميع النزاعات» وكاد ذاك الاتفاق يوقع فى ٢٠٢٠ لولا تعنت الحكومة الإثيوبية. وبينما لم تلتفت إدارة الرئيس السابق جو بايدن لملف سد النهضة وغابت إلى حد بعيد عن دبلوماسية نشطة تجاه حوض النيل، فإن عودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض تعد بإحياء جهود الولايات المتحدة للوساطة وتمكن الحكومة المصرية من المزج بين خطواتها السياسية الجادة فى حوض النيل ومنطقة القرن الإفريقى للضغط على الحكومة الإثيوبية لتوقيع اتفاق نهائى وبين التحرك السريع للقاهرة فى أروقة الإدارة الأمريكية وفى سياقات واشنطن بصورة عامة (البنك الدولى وصندوق النقد الدولى على سبيل المثال) لاستعادة الزخم الدولى لإنهاء تعنت أديس أبابا، عبر توقيع اتفاق ملزم بين الأطراف الثلاثة، مصر والسودان وإثيوبيا.