مع ظهور رواية (عالم صدام) (دار الجمل) التى لم يكشف عن مؤلفها إلى الآن تساءل البعض عن إمكانية ظهور أدب فاضح للاستبداد فى عالمنا العربى.
كان ذلك فى العام ٢٠٠٣ عقب احتلال العراق وسقوطه تحت الاحتلال الامريكى.
وتحدث الكثير من الأدباء والنقاد عن ميلاد (بلاغة المقموعين) وحلم آخرون بروايات تستفيد مما أنجزه أدباء أمريكا اللاتينية فى هذا السياق خاصة روايات مثل السيد الرئيس استورياس، أو خريف البطريرك لماركيز أو حفل التيس لماريو برجاس يوسا أو على الاقل تستلم إرث أدب التحايل فى تراثنا.
ولما اندلعت احتجاجات الربيع العربى فى العام 2011 اعتقد البعض أن أدب الثورات بإمكانه فضح أنظمة القمع فى عالمنا العربى.
وقتها كانت الامال قوية وكانت الشعارات أيضا كذلك، وجاءت غالبية النصوص كرد فعل لما جرى والقليل منها كانت كاشفا عن بنى القمع الاستبداد والفساد وأطلت اسماء عربية قوية وجدت إقبالا عربيا وغربيا لافتا وساعدت الجوائز العربية التى تأسست قبل تلك السنوات بقليل على ربط الانتاج الروائى بسوق القراءة وراح الأدباء العرب مع تراجع الأمل فى التغيير ينتجون نصوصا تقع فى إطار (الديستوبيا) أو أدب المكان الخبيث الذى يناقض الحلم باليوتوبيا ويستفيد من آليات أدب الخيال العلمى لتدخل الرواية العربية فضاء لم تعرفه من قبل بفضل الكتاب الشباب الذين كانوا جزءا من حركات التغيير.
واللافت أن الكثير من تلك الأسماء كانت متفاعلة مع اللحظة أو تساهم فى التمهيد لها من خلال نصوص كانت تكتبها بلغات أجنبية بحكم ظروف الهجرة أو المنفى وهنا أطلت اسماء مثل العراقيين عباس خضر وحسن بلاسم والجزائرى امين الزاوى والمصرى عمر هاملتون والكاتب الليبى هشام مطر الذى أتاحت دار الشروق عملين من أعماله أخيرا فى طبعات جديدة وهما (اختفاء) و(فى بلد الرجال).
وقد اطلعت على الاخيرة فى ترجمة عربية ممتازة أنجزها الروائى محمد عبدالنبى وراجعها الشاعر أحمد شافعى.
وبالمقارنة مع الكثير من الاعمال التى قرأتها فى هذا السياق تنفرد رواية مطر بميزة أساسية ترتبط بقدرته على استثمار ذاكرته الشخصية المرتبطة بتجربة اختفاء والده الذى كان معارضا للنظام الليبى فى العام ١٩٧٩ لكنه لا يتورط أبدا فى عملية إسقاط قناعات وعيه الراهن على تلك اللحظة.
فقط يقوم بتثبيتها تماما امام القارئ فتبدو عملية الكتابة وكأنها تصفح لألبوم من الصور والذكريات التى لم تغادر وعيه لأنها ببساطة أسست لمسار حكم حياة الراوى الطفل (سليمان) الذى يمنح القارئ أرشيفا من المشاعر الصادقة فى عفويتها لتبدو حية بهذا الأثر الذى لا يزول ولا يصعب على القارئ اكتشاف الطاقة الشعرية فى النص لكن هذه الشعرية تتفادى العيوب التى تتجلى فى النصوص التى يكتبها الشعراء فى انتقالهم لكتابة الرواية فهى لا تغرق فى الاستبطان وإنما تعين على إحداث الانتقال الناعم من الذات الفردية إلى الجماعة ومن جماليات هذه الرواية الفريدة أنها لا ترى الواقع السياسى معزولا عن بنى المجتمع وتحولاته، فلم يكن الصراع فى قمته بمعزل عن صراع آخر بين قيم البداوة والحداثة كما تجلت مثلا فى تفاصيل ليلة زفاف الام لوالد الطفل وهى لحظة ظلت ثأرية لدى الام ولم تغفرها أبدا وظل جسدها جدارية لندوب لا تمحى.
والاستبداد الذى تشير إليه الرواية لا يرتبط فقط بنظام سياسى من السهل الاستدلال على طابعه القمعى وإنما يرتبط أكثر من أى شىء باغتصاب الروح والتعدى على كل ما هو حميم، ولم يكن ظهور صورة العقيد فى غرفة النوم بديلا عن صور العائلة إلا دليلا على هذا التعدى، فضلا عن الرغبة فى محو ذات الفرد لصالح جنوح الجماعة ومثلها الاعلى، فالعقل الفاشى ينطلق من وعى الإزالة ولا هدف له سوى هذا المحو.