من واقع الحيثيات التى تلاها المستشار محمود الرشيدى فى حكمه بتبرئة مبارك وبقية المتهمين فى «قضية القرن»، لا يمكن القول إن العدالة بمفهومها الحقيقى قد تحققت فى هذه المحاكمة، فالقاضى نفسه قال بالنص بعد أن تلا موجزا وافيا لكوارث مبارك خلال سنوات حكمه العجاف «إنه ما كان يتناسب إجراء محاكمة جنائية للرئيس الأسبق عملا بقانون العقوبات، واستبدال الأفعال الخاطئة فى نطاق المسئولية السياسية بالجرائم المشار إليها فى منطق الاتهام»، وهو ما يعنى إقرار المحكمة بأنه كان من الواجب تقديم مبارك وولديه مع بقية المتهمين إلى محاكمة سياسية، ستكون بالتقدير الأجدر على تحقيق العدالة الناجزة، وإصدار العقوبات الصحيحة على كل المتهمين.
طبقا للقانون الذى حوكم بمقتضاه المتهمون، وطبقا للأدلة وشهادات الشهود، حصل مبارك على البراءة فى تهمتى الرشوة واستغلال النفوذ وإهدار المال العام فى تصدير الغاز لإسرائيل، وذلك لانقضاء الدعوى القضائية بالتقادم رغم ثبوتهما عليه وهو عار سيظل يلاحقه حتى بعد مماته، أما تهمة قتل المتظاهرين فقضت المحكمة بعدم جواز نظر الدعوى لخطأ النيابة فى تطبيق الاجراءات القانونية، بسبب تأخرها فى اتهام مبارك فى قضية قتل المتظاهرين، لأكثر من شهرين.
صحيح أن محمة النقض ــ كما هو متوقع ــ ستعيد نظر القضية، وربما تنظر فى أدلة اتهام جديدة تردد أنه تم طمس بعضها وإخفاء بعضها الآخر، إلا أن هذا المسار القضائى لن يتمكن أيضا من مساءلة مبارك وولديه ورموز نظامه على جرائمهم السياسية الخطيرة فى حق مصر والمصريين، فمحكمة النقض إذا قبلت نقض النيابة للحكم ستتحول لمحكمة جنايات، وستعيد محاكمة مبارك بنفس القوانين التى برأته، وهو ما يفرض علينا البحث عن طريق قانونى لتقديم مبارك وبقية المتهمين لمحكمة سياسية بدلا من ضياع الوقت فيما لا يجدى.
هذه المحاكمة السياسية ربما نجد مفتاحها بتطبيق مفاهيم العدالة الانتقالية التى أهملناها بدون سبب واضح خلال السنوات الثلاث الماضية، ودفعنا بسبب هذا الإهمال ثمنا فادحا كان يمكن أن يجنبنا فقدان الكثير من الشهداء الذين أريقت دماؤهم لتحقيق أهداف ثورتى يناير ويونيو، وان تجنبنا ويلات هذا الانقسام المجتمعى الذى يعطلنا عن إقامة نظام سياسى ديمقراطى حقيقى، يؤسس لشعارات العيش والحرية والعدالة الاجتماعية بالشكل المطلوب.
براءة مبارك ورموز نظامه، تنتقص من شرعية حكم الرئيس عبدالفتاح السيسى، وتضع شعبيته التى تأسست مع اسقاط الإخوان فى مهب الريح، فإذا كان السيسى يعتبر نظامه معبرا عن أهداف ثورتى يناير ويونيو، فسيكون من الواجب عليه الإسراع فى عقد محاكمة سياسية عادلة لنظام مبارك عن كل الجرائم التى ارتكبها طوال سنوات حكمه، وإلا فإنه لن يقنع احدا فى مصر بأنه يعبر فعلا عن هاتين الثورتين، وهو ما يفتح الباب واسعا أمام انتفاضات شعبية قد تتأخر قليلا، ولكنها حتما ستحدث فى ظل أزمات اقتصادية طاحنة، وغياب رؤية واضحة لفلسفة الحكم فى مصر، مع ترتيبات يقوم بها فلول مبارك للسطو على البرلمان القادم، بما يعنيه ذلك من عودة سياساته الفاشلة مرة أخرى!
السيسى يواجه امتحانا صعبا، واستجابته لمحاكمة مبارك بتعويض الشهداء والمصابين، واجراء تعديلات على قانون الاجراءات الجنائية، لا تكفى لاحتواء غضب ملايين المصريين، فمحاكمة مبارك سياسيا هى الطريق الوحيد لتأسيس شرعية جديدة فى مصر، تستطيع الصمود أمام المعارك المفروضة عليها داخليا وخارجيا!