السلام عليكم، ورمضان مبارك!
هذه الكلمات تردد صداها فى شوارع القاهرة فى شهر رمضان من كل سنة، على امتداد أكثر من ألف سنة. حيث مر مسلمون من جميع الأمم، ومن مختلف مشارب الحياة، عبر طرقات هذه المدينة العريقة، يهنئون بعضهم البعض بحلول هذا الشهر الفضيل، ويحتفلون به مع عائلاتهم وأصدقائهم حول مائدة الإفطار، وفى سعيهم إلى الروحانية من خلال أداء الصلاة الجماعية فى المسجد.
هذه هى السنة الثانية على التوالى التى أزور فيها القاهرة خلال شهر رمضان، وأقول بكل حق بأن تجربتى فى رمضان هنا رائعة. فى هذا الشهر الفضيل، بما يسوده من أجواء الروحانية والطاعة والعبادة، أود أن أنتهز هذه الفرصة، كمسلم بريطانى، لأتأمل فيما يعنيه شهر رمضان هنا فى مصر، وفى بلدى المملكة المتحدة.
وأول ما يمكن ملاحظته هو أننا نسمع عبارات التهنئة بحلول شهر رمضان فى لندن تماما كما فى الأقصر، وفى مانشستر كما فى المنصورة، وفى كامبريدج كما فى القاهرة. حيث يشكّل المسلمون الآن ثانى أكبر طائفة دينية فى المملكة المتحدة، أى إن ملايين المسلمين فى أنحاء بريطانيا يصومون شهر رمضان كل سنة. حيث المسلمون، من إنجلترا إلى أسكتلندا، ومن ويلز إلى إيرلندا الشمالية، يؤدون نفس الشعائر التى يؤديها المسلمون فى أنحاء العالم، من صيام وقراءة القرآن وأداء صلاة التراويح.
وكما الحال هنا فى مصر، فإن شهر رمضان فى بريطانيا فرصة رائعة تجمع بين الناس. حيث شهدنا فى السنوات الماضية بعضا من أشهر المؤسسات البريطانية تستضيف الناس من شتى الخلفيات والأديان حول مائدة الإفطار، سواء فى برج لندن أو فى كاتدرائية سانت بوول. وفى ساحة الطرف الأغر، كان عمدة لندن صادق خان، وهو مسلم أيضا، أول عمدة لمدينة لندن يستضيف الإفطار فى هذه الساحة الشهيرة التى تقع فى وسط العاصمة. وهذه السنة نرى، ولأول مرة، شوارع لندن مزينة بزينة رمضانية. كذلك هذه السنة، ولأول مرة أيضا، أصبح نادى تشيلسى أول نادى من الدورى الممتاز يستضيف حفل إفطار فى ساحة الملعب الواقع فى ستامفورد بريدج. كما حضرت أنا شخصيا مأدبة إفطار استضافتها المجموعة البرلمانية لجميع الأحزاب على شرف المسلمين البريطانيين، وذلك فى مقر رئيس مجلس العموم.
ما أود قوله من كل ذلك هو أن الإسلام جزء من المملكة المتحدة، كما إنه جزء من تقاليدنا أيضا.
ومع هذا، وبينما أننى صُمتُ رمضان فى بريطانيا وفى أماكن عديدة من أنحاء العالم، يسرنى دائما أن أكون فى مصر خلال هذا الشهر الفضيل. فحتى وإن كانت شعائر رمضان هى نفسها فى كل مكان، فإن الشعور بدفء المشاعر هنا فى مصر فريد من نوعه. وهذا ما ألاحظه بالفعل فى جميع مناسبات الإفطار والسحور التى أحضرها، حيث وجبة الطعام تجمع الناس من مختلف مشارب الحياة بروح من التآزر. وهذا ما ألاحظه أيضا حتى بمجرد المشى فى شوارع القاهرة التى تضيئها فوانيس بألوان مختلفة، وتزينها زينة وتصاميم رمضانية رائعة.
فى زيارتى إلى القاهرة هذه السنة، تشرفت بزيارة المساجد والجوامع فى شارع المعز أثناء جولتى فى المعالم الإسلامية فى القاهرة، كما زرت سوق خان الخليلى التاريخى الشهير. وقد تجلّى لى بوضوح مدى تجسيد الناس هنا لروح رمضان، واعتنائهم بكل صدق ببعضهم البعض. وللأسف فإن انشغالى باللقاءات الرسمية فى المساء حال دون استطاعتى رؤية المشاهد التقليدية السائدة فى القاهرة خلال هذا الشهر الكريم: حين يوزع الناس الماء وحبات التمر على السائقين عند غروب الشمس لكى يُفطروا، وموائد الرحمن التى تفترش شوارع القاهرة لتقديم وجبات الإفطار للصائمين.
هذه المشاهد لا تنحصر بمصر وحدها، بل نراها فى أنحاء العالم العربى.
ونظرا لكون شهر رمضان مناسبة للتفكر والتأمل والصلاة، ويجتمع فيه أفراد العائلات والأصدقاء، فإننى أعتقد أيضا بأن من واجبنا أن نذكر العائلات التى افترقت عن أحبائها بسبب ظروف خارجة عن إرادتها. فالكثير من الناس فى شهر رمضان ليس باستطاعتهم الاحتفاء به كالمعتاد، سواء بسبب الحروب كما فى أوكرانيا، أو بسبب كوارث طبيعية كالزلزال الذى وقع أخيرا فى تركيا وسوريا.
لذا من واجب سائر الناس من بيننا أن نبذل كل ما فى وسعنا لتقديم المساعدة. وهنا أشيد بالمساعدة السخية التى قدمتها مصر لإغاثة ضحايا الزلزال وعائلاتهم فى تركيا وفى سوريا. ونحن فى بريطانيا قدمنا حزمة مساعدات بلغت 25 مليون جنيه إسترلينى لإعانة المحتاجين فى كلا البلدين، بما فى ذلك تقديم دعم منقذ للأرواح فى المناطق الأشد تضررا من الزلزال. كذلك، ومع استمرار الحرب فى أوكرانيا، نواصل دعمنا للعائلات الأوكرانية، وللمسلمين الأوكرانيين، بتقديم ما يحتاجون إليه من مساعدات إنسانية تعينهم فى تحمّل آثار تلك الحرب المريرة.
وعودة إلى هنا، أشيد أيضا بالجهود الحثيثة التى تبذلها مصر سعيا إلى تشجيع السلام وتقليل التوترات فى الأراضى الفلسطينية المحتلة ــ فى غزة وفى الضفة الغربية وفى القدس الشرقية. حيث لا يمكن إحلال سلام دائم عن طريق العنف والإجراءات أحادية الطرف. بل الحل يكمن فقط فى احترام الحقوق، بموجب القانون الدولى. وفى نهاية المطاف، فإن حل الدولتين هو مفتاح السلام الدائم والاستقرار فى الشرق الأوسط.
فى هذا الشهر الكريم، من المهم ألا ننسى جميعنا كل من يعانون فى أنحاء العالم، وأن نصلى لأجل عائلاتنا، ولأجل مجتمعاتنا، ولأجل أن يعم السلام على الجميع. علينا أن نجتهد أكثر فيما نفعل، وأن نحاول تقديم المزيد من العون، وأن نكون حاضرين دائما لمساعدة بعضنا البعض ــ سواء على الصعيد العالمى أو حتى العناية بجيراننا. وهذا ما نفتخر بفعله هنا فى مصر من خلال دعمنا لبرنامج تكافل وكرامة لمساعدة الأسر الأكثر احتياجا فى أنحاء مصر. وسنواصل تقديم الدعم لمن هم بحاجة إليه هنا فى مصر وفى أنحاء المنطقة. وفى ختام زيارتى هذه فى شهر رمضان، أحمل معى هذه الرسالة، التى تستقى الإلهام مما شهدته من سخاء وتعاطف فى مصر: علينا محاولة ترك الأمور فى حال أفضل مما وجدناها، وأن نجعل العالم مكانا أفضل للجميع.
أسأل الله تعالى أن يتقبل صيامنا وصلاتنا بينما نَنْذُر أنفسنا جميعا لخدمة الإنسانية جمعاء.