تعرضت دول كثيرة لصدمات فى أسعار صرف عملاتها الوطنية مقابل الدولار الأمريكى. خلال نهاية التسعينيات من القرن الماضى تعرضت مجموعة دول شرق وجنوب شرق آسيا المعروفة حينذاك بالنمور الآسيوية لصدمات مالية عنيفة، كان أبرز معالمها تدفقات رءوس الأموال خارج البلاد بوتيرة متسارعة أدت إلى انهيار العملات الوطنية وأسواق المال بغالبية تلك الدول. وكعادة ضوابط إدارة المخاطر أنها تتطور فى أعقاب الأزمات الفعلية على الأرض، حيث تتعلم الدول الدروس بتكلفة مرتفعة للغاية. فقد تبنّت تلك المجموعة من الدول ضوابط عدة لإدارة تدفقات رءوس الأموال بما يحول دون تعرّضها لصدمات مماثلة فى المستقبل.
منذ السنوات الأولى للقرن الحادى والعشرين، أدى انخفاض أسعار الفائدة فى الدول المتقدمة، مثل الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبى واليابان، إلى زيادة السيولة دوليا. شجعت هذه السيولة الفائضة تدفقات رءوس الأموال عبر الدول، عندما كانت أسواق الأسهم راكدة فى الأسواق المتقدمة، مما حفز تدفقات الأموال الساخنة إلى الأسواق الناشئة سعيا وراء عوائد أعلى. ومع ذلك، مع زيادة تدفقات رأس المال المضاربة الوافدة، تتراكم أيضا مخاطر حدوث تدفق سريع إلى الخارج. عندما يحدث مثل هذا التدفق، فمن المرجح أن تكون الدول الأكثر انفتاحا على التجارة الدولية الأكثر عرضة للاضطرابات فى أسواق الصرف الأجنبى، وما يصاحبها من آثار سلبية. يمكن أن تنطوى الأزمة المالية على اضطرابات شديدة فى أسواق العملات والأصول، مما يؤدى إلى عدم استقرار الاقتصاد الكلى، والمزيد من العدوى المالية إلى الدول الأخرى فى المنطقة وخارجها.
وقد أدت صدمتا جائحة كورونا والحرب الروسية ــ الأوكرانية، وما نتج عنهما من إغلاقات واضطرابات فى سلاسل التوريد وحركة التجارة والأفراد، إلى حدوث موجات تضخمية عنيفة، ونقص ملحوظ فى جانب العرض (من السلع والخدمات ومواد الطاقة) ترتب عليهما اتباع معظم البنوك المركزية لسياسات تشديد نقدى كثيفة، تتمثّل فى رفع مستمر فى أسعار الفائدة، لترتفع من مستوياتها قرب الصفرية فى الولايات المتحدة (على سبيل المثال) إلى 5.25% خلال عام ونيف منذ نشوب الحرب فى أوكرانيا. كانت تلك السياسة، التى ألمح رئيس الفيدرالى الأمريكى أخيرا على كونها قد تستمر طويلا حتى بعد السيطرة على معدلات التضخم على نحو لن تعود معه أسعار الفائدة إلى قيمتها قرب الصفرية فى أى وقت قريب، بمثابة آذان بانتهاء عصر الأموال الرخيصة، وبداية استيقاظ العالم على حقيقة مرة، مفادها أن حجم الديون القائمة قد بلغ أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج الإجمالى العالمى.
• • •
قبل التطرق إلى دور حساب رأس المال فى ميزان المدفوعات فى تلك الأزمات، يتعين توضيح بعض المصطلحات. يمكن وصف ميزان المدفوعات على أنه سجل اقتصاد دولة ما، فيما يخص معاملاتها وصفقاتها الاقتصادية الدولية. ويبين هذا السجل الأمور التالية: (أ) صفقات السلع والخدمات والدخل بين اقتصاد بلد ما وبقية بلدان العالم (ب) التغيرات فى الملكية والتغيرات الأخرى فى الغطاء الذهبى للنقد فى ذلك الاقتصاد، وحقوق السحب الخاصة، ومطالبات ذلك الاقتصاد من بقية دول العالم والتزاماته تجاهها (ج) التحويلات بلا مقابل والقيود المحاسبية المناظرة اللازمة لتحقيق التوازن بالمعنى المحاسبى، وأى قيود محاسبية تتعلق بالمعاملات والتغيرات السابقة التى لا يوجد تعادل متبادل فيما بينها. أما «حساب رأس المال» فيسجّل التدفقات الرأسمالية الواردة إلى الدولة والخارجة منها فى الأجلين الطويل والقصير، ومن أمثلتها القروض والاستثمارات المباشرة وأقساط الديون وحركات الودائع وصفقات بيع وشراء الأسهم والسندات.
تركز معظم الدراسات التجريبية على تقدير أهمية تدفقات رأس المال، من خلال النظر فى مدى مساهمة انفتاح حساب رأس المال فى النمو الاقتصادى، ومعظمها يظهر أن النتائج إما غير حاسمة أو غير داعمة من الناحية النظرية. تشير بعض الدراسات إلى أن معظم البلدان النامية ذات التدفقات الرأسمالية الضخمة تعانى من تقلبات كبيرة فى الاستهلاك. يرى بعض الاقتصاديين أن التقلب فى الاستهلاك بالنسبة للدخل قد ارتفع من الثمانينيات إلى التسعينيات من القرن الماضى لمجموعة الدول الأكثر انفتاحا من الناحية المالية، فى حين انخفض التقلب بالنسبة للدول النامية ذات المستوى الأقل من التكامل المالى. بالإضافة إلى ذلك، وجدت الدراسة التى أجراها دورنبوش وآخرون (1995) أن بعض الاقتصادات الناشئة تواجه توقفا مفاجئا لتدفقات رأس المال إذا كانت التقلبات كبيرة.
الهدف الرئيس من فرض ضوابط على تدفقات رأس المال الخارجة هو إتاحة فرصة للحكومة للتعامل مع التقلبات الاقتصادية فى البلدان. وبالتالى، يجب تصميم ضوابط حركة رأس المال بعناية لضمان أن تكون التدابير واسعة النطاق، ويمكن أن تتعامل مع جميع أنشطة المضاربة المحتملة وصور التحايل. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون التوقيت مواتيا لفرض الضوابط أو السياسات. كذلك يجب الموازنة بين وضع تدابير قصيرة الأجل، تكون مصداقيتها موضع شك، وبين فرضها لفترة طويلة لأن ثقة المستثمر قد تهتز. وقد نجحت ماليزيا فى القضاء على المصادر المحتملة للتلاعب بعملتها الوطنية «الرينجت» من قبل غير المقيمين، مما أدى بشكل فعال إلى القضاء على سوق «الرينجت» الخارجى. وكذلك نجحت القيود المفروضة على تحويلات الأجانب المقيمين لرأس مال المحفظة (غير المباشر) وعلى الاستثمارات الخارجية للمقيمين. وقد ساعدت تدابير السياسة واسعة النطاق إلى جانب سياسات الاقتصاد الكلى والسياسات المالية الداعمة، على استقرار سعر الصرف واحتواء تدفقات رأس المال الخارجة. أما بالنسبة لحالتى إسبانيا وتايلاند، فعلى الرغم من أن الضوابط نجحت فى تقليص المضاربة على العملة المحلية لفترة وجيزة، فقد أدى ضعف ضوابط رأس المال إلى مزيد من الهجمات على العملات، وأسفر عن تعويم اضطرارى للعملة فى عام 1992 بالنسبة لإسبانيا وفى عام 1998 بالنسبة لتايلاند.
• • •
تشير التجارب الدولية والأدبيات إلى أن سيطرة الدول على تدفقات رءوس الأموال الواردة أو الخارجة تأخذ صورا عديدة أبرزها ما يلى:
أولا: السياسة النقدية وسياسات سعر الصرف: تساعد سياسة تعديل سعر الصرف على السماح لأسعار الصرف الاسمية للعملة الوطنية أن ترتفع مع زيادة تدفقات رأس المال الواردة، بما يقلل من تراكمها، والعكس فى حالة التدفقات إلى الخارج. لكن بالتأكيد مرونة سعر الصرف هى سياسة لها آثارها الجانبية الكبيرة، خاصة إذا كانت الدولة لا تمتلك احتياطيا من النقد الأجنبى يسمح بتلك المرونة. كذلك تساعد سياسات التشديد النقدى (رفع أسعار الفائدة) على وقف تدفقات رءوس الأموال إلى الخارج، من خلال اجتذابها فى أوعية إدخارية مصرفية جاذبة، وفى أدوات دين ذات عائد مرتفع. بينما ترى مدرسة فكرية أخرى أن السياسة النقدية التوسعية (خفض أسعار الفائدة) يمكن أن تقلل من انهيار الاقتصاد خلال فترة التوقف المفاجئ للتدفقات المالية. مدى هذا الطرح هو أن الدول التى تخفض من أسعار الفائدة تكون قادرة على تحفيز الاقتصاد الحقيقى، من خلال توفير رءوس أموال بتكلفة مناسبة للمشروعات القائمة والجديدة، ومن ثم يتم استعادة الثقة، ووقف تدفقات الأموال إلى خارج البلاد. لكن فى الأجل القصير جدا لا تفلح سياسات التوسع النقدى فى وقف نزيف تدفقات الأموال إلى الخارج، وهو ما استوعبته تركيا أخيرا، وقامت محافظ المركزى برفع مستويات أسعار الفائدة من 8.5% إلى 15% فى قرار واحد، بعد أن عمد سابقها (بتدخل رئاسى) على خفض الفائدة رغم انهيار الليرة أمام الدولار.
ثانيا: قرارات السياسة المالية: يمكن للتشديد المالى أن يحد من تدفقات رءوس الأموال إلى الدولة، فالدولة التى تتبع سياسة مالية تقشفية خلال فترة زمنية معينة، يمكنها أن تقلل من امتصاص القطاع الحكومى والمملوك للدولة لرءوس الأموال الوافدة من الخارج، مما يعادل الأثر السلبى لنهم القطاع الخاص على تلك التدفقات، والتى قد تتمثّل فى تلقيه للقروض الأجنبية أو بيع أصول للأجانب. كذلك تساعد السياسة المالية التوسعية على وقف تدفق الأموال إلى الخارج، نظرا لامتصاصها محليا من خلال المشروعات المختلفة. وهناك تجارب دولية أثبتت أن السياسة المالية التقشفية يمكنها أيضا أن تساعد على خفض التدفقات المالية إلى الخارج، شريطة أن يتحقق الضبط المالى، ويتم إعادة تخصيص الإنفاق الحكومى على ما يعالج العجز المزمن فى ميزان المدفوعات بأقسامه المختلفة.
ثالثا: ضوابط تحرير أو تقييد تدفقات رأس المال: يمكن استهداف تدفقات رأس المال بسياسات مباشرة مثل الضرائب على حركة رأس المال، أو بقرارات إدارية أو قانونية مقيدة أو ميسرة لتلك الحركة. قامت شيلى بتحرير تدفقات رأس المال الخارجة بالتزامن مع جولة أوروجواى المنفذة خلال أوائل التسعينيات. كما فعلت ماليزيا الشىء نفسه فى 2003 ــ 2008. استخدمت كوريا هذا الإجراء فى عام 2005 لوقف ضغوط ارتفاع الأسعار من خلال إلغاء معظم الضوابط. تمت زيادة الحد الأعلى لأصول شركات التأمين الكورية بالعملة الأجنبية إلى 30%، وتم تخفيف متطلبات التحويلات إلى الوطن بالنسبة لعائدات المعاملات الرأسمالية فى الخارج فى عام 2006. وقد تم رفع سقف الاستثمار الأجنبى المباشر للأفراد ومشتريات العقارات فى عامى 2006 و2008 على التوالى. يمكن أيضا أن تنشأ قيود كمية أو كيفية على استخدام العملات المحلية أو الصعبة فى التعاملات، بما يحد من فرص المضاربة على العملات أو تحويل الأموال إلى الخارج بوتيرة متسارعة خالقة للأزمة.
تتعدد إذن السياسات التى يمكن أن تتعامل مع تدفقات رأس المال من وإلى الدولة، ويمكن للسياسة ذاتها أن تحقق تدفقا إلى الخارج أو إلى الداخل إذا ما تم استخدامها فى توقيت مختلف وبنسب متفاوتة. لكن تظل كفاءة تلك السياسات مرتبطة إلى حد بعيد باستعادة الثقة فى الاقتصاد، وتلك لا تتحقق فقط بالسياسات ولكن أيضا بالإدارة والكفاءات.