سعدت بإجراء الانتخابات البرلمانية، رغم أن البيئة المحيطة بها مشوهة، محتقنة، يسودها الفرز والاستقطاب. مبعث السعادة ليس فقط الصفوف الطويلة التى شكلها المواطنون أمام لجان الاقتراع، والهدوء النسبى الذى أحاط بالعملية الانتخابية، وغياب المظاهر الفجة فى تزوير وتزييف إرادة الناخبين. ولكن لأن المصريين استطاعوا أن يعرفوا ملامح خريطة سياسية لمجتمعهم. فى هذه الانتخابات خاض التيار الإسلامى، بأحزاب مختلفة، وفصائل متنوعة الانتخابات.
تقدم على غيره، ولم يكن فى ذلك مفاجأة، ولكن غيره استطاع أن يزاحمه، وفى ذلك مفاجأة، لأن الخطاب الذى دار خلال الشهور الماضية أن الأحزاب الجديدة ليست جاهزة، والإخوان المسلمون وحدهم هم الجاهزون، وإذ بهذه الأحزاب، بخاصة الكتلة المصرية تتقدم، وتنافس بشكل لافت، وهى تتكون من حزبين جديدين على الساحة تماما هما الديمقراطى الاجتماعى والمصريين الأحرار، وآخر كان متراجعا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وهو حزب التجمع.
فى الطابور الممتد أمام لجنة الانتخاب استمعت إلى التعليقات الذكية من المواطنين العاديين على شاكله «سوف انتخب ناس جدد لأننى لا أريد استبدال مكتب الإرشاد بلجنة السياسات»، وسلفى يوزع منشورا انتخابيا تقرأ فيه أن العلماء المسلمين بالدائرة الانتخابية، نظرا لكثرة مرشحى التيار الإسلامى، يدعون إلى انتخاب «حزب النور»، وهو ما يعنى ــ صراحة ــ عدم انتخاب الإخوان المسلمين. واثنان من الأقباط يُذكران نفسيهما بالرموز الانتخابية للمرشحين الذين التف حولهم الأقباط، وهم فى الغالب ينتمون إلى الكتلة المصرية، ومواطن آخر يخشى الغرامة المالية فذهب إلى التصويت، ولم يعرف كيف يصوت، ولعل ذلك يفسر ارتفاع نسبة الأصوات غير الصحيحة.
***
هذه الانتخابات شهدت انتفاضة الطبقة الوسطى المصرية، التى تعانى من قلق حقيقى: القوارض الطفيلية التى تتغذى على جذورها، وحالة الترييف والعشوائية وتدهور القيم التى تزحف على المدينة. هذه الطبقة سعت إلى فرض اختياراتها. حصل الإسلاميون على أصوات مواطنين ينتمون إليهم، أو قادمين من الأوساط الشعبية التى يعتصرها الفقر وغياب الوعى الثقافى، فى حين كان خيار قطاع لافت من الطبقة الوسطى المسلمة المتدينة التصويت لأحزاب وقوى لا تنتمى إلى الإسلام السياسى. هناك قلق فى «الطبقة الوسطى» المتدينة من الإسلاميين الذين كانوا يحظون بأصواتهم من قبل، مبعثه، كما فهمت من بعض ممن تحاورت معهم، هو الخوف أن يغطى ارتفاع منسوب التدين المحافظ «الشكلى» على حالة التدهور المجتمعى الشامل دون اشتباك معه وتطهير له، وهو ما جعل هذه الشريحة المتدينة من الطبقة الوسطى تستهويها خطابات النقد الثقافى والاجتماعى والسياسى التى تروجها النخب الليبرالية واليسارية والثورية. حصدت «الكتلة المصرية» و«الثورة مستمرة» وغيرهما أصوات هذه الشريحة احتجاجا على التيار الإسلامى، خاصة السلفيين الذى أظهروا فى الشهور الأخيرة وجها مخيفا للطبقة الوسطى المصرية المتدينة، المسلمة قبل المسيحية.
وإذا كانت قطاعات من الطبقة الوسطى المتدينة حجبت أصواتها عن الإسلاميين، فإن هناك قطاعات شعبية أخرى رأت فى القوى الإسلامية «استقرارا» تنشده، بعيدا عن تموجات وتقلبات وفوران ميدان التحرير، وحديث «الثورة» الدائم، والاستقطاب الغاضب فى الإعلام، والتلويح بالمواجهة مع المجلس العسكرى، هم يريدون أن يتشكل نظام سياسى جديد «مستقر»، يعيد إليهم أجواء الرتابة البيروقراطية التى أعتادوا عليها، حتى وإن تصدر وجه المجتمع لحية مهذبة أو كثة.
هناك من عاقب الإسلاميين على ما أعتبره نكوصا عن مساندة أهداف الثورة فى هذه المرحلة، وهناك من عاقب أهل «ميدان التحرير» على سخونة الأجواء السياسية المستمرة بانتخاب الإسلاميين أو ما يعرف بفلول النظام السابق، أو حتى الأحزاب القديمة مثل حزب الوفد. وهناك من انتخب الإسلاميين تأثرا بالدعاية التى كانوا يطلقونها فى مواجهة خصومهم، خاصة بالإلحاح المستمر على الحفاظ على الشريعة الإسلامية فى مواجهة أعدائها. فى «بورسعيد» ــ مثلا ــ حيث نافس جورج إسحق، الناشط السياسى المعروف، مرشحا للإخوان المسلمين، ظهر هذا النوع من الدعاية التى دعت الناس إلى «توحيد صف المسلمين خلف من يخدم دينهم» فى وجه «الأعداء» الذين يريدون «تنحية الشريعة الربانية الإلهية». هذه اقتباسات من منشورات وزعت على المصلين فى المساجد. تكرر ذلك فى دوائر انتخابية عديدة.
بالطبع هناك من يخشى «الإسلاميين»، ويخاف مما يطلق عليه «الدولة الدينية»، ويبررون الخشية مما فعله البعض منهم من «تديين المجال العام» كما حدث فى النقابات المهنية لعقود، أو فى الأندية التى فازوا فيها وآخرها «نادى الشمس»، فضلا عن الآراء الفجة التى ينطق بها بعضهم. هذا الخوف مفهوم ومبرر، ولكن الصورة لها وجه آخر، وهو أن التيار الإسلامى لم يعد محظورا أو محجوبا، أو أن الجسم الغاطس منه أكثر من الظاهر. صار الإسلاميون تيارا سياسيا له خريطة واضحة، تضاريسه معروفه يمكن التعامل والاشتباك السياسى معه. انتهت مرحلة «الأشباح» فى السياسة، ويجب على القوى العلمانية باختلاف أطيافها التعامل مع التيار الإسلامى ليس بوصفه «الخطر القادم» أو «التهديد الصاعد»، ولكن على أنه الخصم السياسى الذى ينبغى إدارة معركة سياسية معه على أرضية فكرية، وسياسية، تتعلق بالسياسات، وليس بالحديث المستمر عن قضايا نظرية عامة مثل «الدولة المدنية» فى مواجهة «الدولة الدينية». هذه هى المعركة التى دائما ما يخشى الإسلاميون الدخول فيها، ولم يستعدوا لها.
***
من المبكر الحكم على الانتخابات التشريعية، بشكل عام، والتى لم تنته، ولا يُعرف على وجه التحديد خريطة البرلمان التى سوف تفرزه. ومن المتوقع أن تتأثر اتجاهات التصويت فى المرحلتين الثانية والثالثة بالنتائج الأولية فى المرحلة الأولى، سواء باتجاه البعض للتصويت للكتل والأحزاب الليبرالية واليسارية خوفا من الإسلاميين، أو بالعكس التصويت للإسلاميين فى مواجهة تصاعد البديل العلمانى ــ فى رأيهم ــ بشكل عام. الإشكالية ليست فى حجم المقاعد الذى حصل عليها هذا أو ذاك، فهذه قضية بالطبع، ولكن فى المرحلة الجديدة بعد الانتخابات التى تحتاج إلى إدارة مختلفة من القوى السياسية. من خطأ النظر إلى الإسلاميين بوصفهم تكتلا سياسيا واحدا. بالتأكيد سوف يحدث اصطفاف بينهم فى بعض القضايا، ولكن هناك شروخ فى التكتل الإسلامى ما بين إخوانى وسلفى، سوف تتضح معالمها فى المرحلة المقبلة، ليس فقط لاختلاف «التكتيك» والتباين بينهما فى حجم «المصرح به» علنا من الخطابات، ولكن أيضا لأن الارتباطات الداخلية والخارجية لهذا وذاك سوف تحول دون استمرار التوافق. أيضا ليس من الحصافة إدارة السياسة بالاستقطاب ما بين إسلامى وعلمانى، لأن ذلك سوف يفتح الباب أمام إلغاء السياسة لصالح التكتلات التى تلتف حول «الهوية الجمعية»، وهو بالمناسبة ما أدى إلى فقدان التيارات العلمانية بعض الأصوات فى الانتخابات. ومن الخطأ أيضا أن تستمر أحزاب سياسية تعمل بشكل منفرد حول أجندة تكاد تكون واحدة هى «الليبرالية والعدالة الاجتماعية»، مهما اختلفت المسميات، وقد تكون نواة هذا التوافق «الكتلة المصرية». أما المواطن العادى، وهو الذى يتأثر بالتقلبات على مدار الساعة، ما بين تفاؤل وتشاؤم، رجاء وقلق، ينبغى أن نتوجه إليه بخطاب مختلف أن الخريطة السياسية فى أى مجتمع ليست نهائية، والمعركة السياسية هى أساس الأوزان النسبية، وهى ليست فقط صندوق انتخاب، ولكن عملا سياسيا ومجتمعيا مستمرا، وهو ما نجح فيه الإخوان المسلمون، ولم تفلح فيه القوى السياسية الأخرى.