فى مجتمع يقال عنه انه محافظ دينيا كالمجتمع المصرى، كان من الطبيعى أن تنال الفنانة رانيا يوسف قدرا معتبرا من الهجوم الشرس بسبب فستانها العارى الذى ارتدته فى ختام مهرجان القاهرة السينمائى، لكن من غير الطبيعى أن يحتل فستانها كل هذا الجدل فى الفضاء العام وعلى مواقع التواصل الاجتماعى، لدرجة تقديم عدد من المحامين بلاغات للنائب العام يتهمونها فيها بالفسق والفجور ونشر الرزيلة ويطالبون بمحاكمتها طبقا لقانون مكافحة الدعارة.
لا شك أن رانيا ارتكبت خطأ فاحشا هى نفسها اعترفت به واعتذرت عنه، وهو الاعتذار الذى كان ينبغى أن يغلق الملف نهائيا، لكن فستانها لا يزال يشعل المعارك بين الأغلبية التى تنادى بعقابها، والأقلية التى ترى أنها نالت بالفعل عقابها بكل الهجوم الذى تعرضت له، وبين من يرون أنها لم ترتكب أى خطأ من الأصل لأنها تمارس حريتها الشخصية فى ارتداء ما تحب، وأنها كانت فى مناسبة فنية تسمح لها بذلك.
لكن ما يثير الدهشة فعلا أن فستان رانيا كشف لنا قبل أن يكشف جسدها العارى حجم الاختلال الرهيب فى سلم أولويات اهتماماتنا الاجتماعية والسياسية، لم نر أى قدر ولو ضئيل من الاهتمام بتراجعنا إلى المرتبة 117 بين 180 دولة فى مؤشر الفساد الذى أعدته منظمة الشفافية العالمية عن العام 2017 بعد ان كنا فى المركز 108 فى العام 2016، وهو المؤشر الذى يقيس السلوكيات المرتبطة بالرشوة والمحسوبية واختلاس المال العام واستغلال السلطة لمصالح شخصية، ولم نر هبة هؤلاء المحامين دفاعا عن القانون ولحماية المجتمع، ودون أن نرى أى اهتمام من رواد التواصل الاجتماعى بهذه الكارثة الأخلاقية بأبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الخطيرة، بل وحتى الذين يهاجمون الفستان من منطلقات دينية شعبوية ران عليهم صمت القبور ولم يثر الفساد شهيتهم للدفاع عن الفقراء الذين يكتوون بنار هذا الفساد.
نفس اللامبالاة تكررت فى قضايا التعليم وانتشار الدروس الخصوصية، وانهيار منظومة الصحة فى المستشفيات الحكومية، وضعف المرتبات مع ارتفاع الاسعار، أو على الأقل لم تحظ هذه القضايا الساخنة بنصف ولا حتى ربع اهتمامهم بفستان فنانة، وكأن محاكمتها وحبسها هو قضيتنا المركزية الأولى التى ستحل بعدها جميع أزماتنا المتفاقمة!
نحن نعرف ان العقل الجمعى فى مصر يعانى من انهيار ثقافى ــ أخلاقى، زرعت بذوره ثورة يوليو 52 بسلسلة الاجراءات البوليسية التى حاولت السيطرة على المجال العام، ونبذ بل وقمع أى فكر مخالف لتوجهاتها والذى فتح المجال لقيم الانتهازية والنفاق وتملق السلطة لتحقيق مكاسب رخيصة، لكن هذا الانهيار بدأ فى التوحش مع وصول السادات للسلطة بغلبة التدين الشكلى على الفضاء العام فى مصر، وانعكس بوضوح على سلوكيات ملايين المصريين، حتى وصلنا إلى ما يشبه السيولة الأخلاقية حيث تتغير القيم فى عصر يعلى من أهمية الاستهلاك والربح السريع وتحقيق الثروات الكبيرة، وتتحول الأخلاق إلى قيم سائلة تفتقر إلى الثبات والصلابة كما يقول عالم الاجتماع البولندى زيجمونت باومان اليهودى المعادى لإسرائيل والصهيونية .
فستان رانيا كشف الازدواجية فى العقل المصرى، أو بالأحرى كشف الجمود الذى يصيب هذا العقل ويمنعه من مناقشة أولويات قضاياه الاساسية، لم يعد لهذا العقل انتاج يذكر منذ ثورة يوليو التى عاشت بانجازاتها الثقافية على جيل الاربعينيات من القرن الماضى واساتذتهم الذين أثروا حياتنا الثقافية، عندما كان سلامة موسى يكتب فى نظرية التطور وفى الفكر الاشتراكى الفابى، وعلى عبدالرازق يكتب ضد الخلافة العثمانية، وطه حسين يكتب فى الشعر الجاهلى وغيرهم، وهى الكتابات التى أسست لمنظومة ثقافية ــ أخلاقية كانت تضع كل قضية فى حجمها المناسب وحسب أهميتها الحقيقية.
حل أزمة هذه الازدوجية هو فى الأساس حل سياسى، يفتح كل الأبواب أمام كل الأفكار والتيارات والآراء للتفاعل بحرية كاملة مع قضايا المجتمع، وبدون هذه الحرية سنظل ندور فى نفس الدائرة الضيقة المغلقة.