قبل أيام من فتح باب الترشح لانتخابات مجلس النواب أفضل تعبير يمكن أن يُقال عن هذه العملية برمتها أنها «فقدت زهوتها»، والسبب يعود إلى غياب السياسة، والاستعاضة عنها بالأشكال القديمة لملء المجال العام.
بعد خفوت ما كان يٌطلق عليه «البديل الإسلامى»، لم تملء الفراغ قوى سياسية، ولم تظهر صور جديدة من التنافس السياسى. وبينما كان الانتقاد الموجه للتيار الإسلامى ــ وهو صحيح بالفعل ــ بأنه يخندق السياسة فى أتون صراع «دينى ــ مدنى»، لم يعرف المجتمع عوضا عنه أشكالا من التنافس حول بدائل سياسات أو تصورات فكرية أو خلافات حول اتجاهات المستقبل، كل ما نراه الآن صراعات شخصية أو تصفية حسابات بين قديم وجديد أو بناء شبكات مصالح متغيرة، وهكذا.
إذا كانت الأحزاب تنتقد قانون الانتخاب بأنه يعيد مفهوم «نائب الخدمات»، فإنها فى المقابل عجزت عن تقديم مفهوم «النائب السياسى». فى ظل غياب الاختلاف حول «البرنامج» تصبح الاعتبارات الشخصية فى المفاضلة بين المرشحين حاسمة، والدليل على ذلك تدوير الشخصيات بين الأحزاب. كم ملفتا أن الذين كانوا علقوا لافتات فى الماضى تحت عنوان «الحزب الوطنى»، يتخذون اليوم شعارات حزبية أخرى، وبعضهم انتقل بين عدة أحزاب، وهناك من عرف الحياة الحزبية بعد ثورة 25 يناير، وتنقل بين عدة أحزاب نشأت حديثا. كل ذلك يؤكد أن التباين «الفكرى» بين الأحزاب ليس أساسا فى العضوية أو الترشح، بقدر ما تدار المسائل بشكل ذاتى بحت.
النتيجة هى العودة إلى المربع التقليدى «المال والعصبيات»، المفتاح السحرى للانتخابات فى مصر، ولم تعد هناك مساحة للإفادة من الحراك السياسى أو الوعى السياسى الذى تشكل لدى المواطن طيلة السنوات الماضية، وبدأت الأمور تتشكل حول المساحة التقليدية المرتبطة بالمصالح القديمة، والعائلات، ورجال الأعمال.
هناك من يحشد الجماهير باسم الدين، وهناك من يعبئ الناس بالمال، وهناك من يرتكن إلى «العصبية»، وهناك من يتمسح فى السلطة السياسية، وهناك من ينافق مشاعر ثورية غير ناضجة، هؤلاء جميعا نعرفهم على مدار عقود، ولكن لم نر حتى الآن من يقدم برنامجا، ويصل للناس به، ويحاول أن يبنى جماهيرية أو شعبية حوله، ويخوض الانتخابات ممسكا ببديل سياسى واضح.
هذه ليست سياسة بالمعنى الحقيقى. ولا يمكن أن نتوقع أداء تشريعيا ورقابيا يناسب تحديات المرحلة. هشاشة القوى السياسية تلقى بظلال سلبية على البرلمان، وغياب بدائل السياسات العامة لدى القوى السياسية يجعل الحكومة ــ أيا كانت ــ مصدر التفكير والفعل، ولن يؤدى شيوع نائب الخدمات، ونائب الوجاهة الاجتماعية، ونائب المصالح التقليدية إلى نشوء سلطة رقابية قوية.
الأزمة الحقيقية فى «القوى السياسية» التى لم تستطع أن تطور برنامجا أو تبنى شعبية أو تقدم كوادر سياسية، وفى ضعفها تلجأ إلى الأساليب القديمة التى ظلت تمقتها وترفضها وتعارضها، وتتعثر فى بناء تحالفات عريضة يمكن أن تشكل سندا لها فى المجتمع، والإفادة من الموارد المتاحة لكل منها.