الاجترار بين الراحة والألم - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 10:49 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الاجترار بين الراحة والألم

نشر فى : الجمعة 4 مارس 2016 - 9:40 م | آخر تحديث : الجمعة 4 مارس 2016 - 9:40 م
عادة باتت تصاحبنا أننا توجهنا بمشاعرنا وعواطفنا وأزماتنا. نجترُ الماضى بما يحملُ مِن عبقٍ أليف، نسعى إليه وكأن فيه وَحدَه المَنجى مِن عاصفة تجتاح حصونَنا أو مِن بئرٍ نغرقُ فيها.

بعضُنا يملِكُ قدرة هائلة على استحضار الذكريات مِن مكامِنها؛ صورا وأحداثا وربما حواراتٍ وكلمات. لا تفوت منه فائتة ولا تشردُ منه ذَرةٌ شاردة. ثمة مُفرحاتٌ وثمة مُبكيات وقد تجتمع الاثنتان فيكون الفرح الغارب سببًا ومَدعاة للبكاء. بكاءٌ على مَجدٍ ولى، على انتصار بات بعيدَ المَنال، على عز استحال مَهانة أو هيبة صارت هوانا واضمحلالا. أحيانا ما نجترُ الماضى تعويضا عن فشلِ الحاضرِ وركوده؛ نباهى بما كان يوما لنا ونتحاكى، لكن تباهينا ينقلب فى العادة حسرة، ويجُرُ علينا لوما وتبكيتا وعتابا.

تجترُ آكلاتِ العشب طعامَها. تستجلبُه مِن أحشائِها بعد ابتلاعه فتُعيد مَضغَه وترسله عودة إلى الأحشاء. لا يُوهم الجملُ نفسه مِن خِلال هذا الفعل بأنه قد وَجَدَ فى جَدب الصحراء وفراغها ما يسدُ به جوعَه فقط، لكنه أيضا يساعدُ جسدَه على التعاملِ مع جزيئات الطعام، فاختزان العشبِ ثم استرجاعه إلى الفمِ وهرسه وخلطه باللعاب مِن جديد، يحول المواد مُعقَدة التركيب إلى أخرى بسيطة سهلة الهضم.

صحيحٌ أننا نشترك مع البهائمِ ماديا ومعنويا فى فعلِ الاجترار، لكن اجترارنا على عكس اجترارهم؛ قد لا يمثل إمارة مِن إماراتِ الصحةِ والعافية. ثمة أمراضٌ مُعقدة تدفع البشر دفعا إلى لفظِ الطعام ثم ابتلاعه مرة أخرى، وثمة أمراضٌ تلقى بهم إلى دواماتٍ تتكرر فيها أحداثٌ خلَت دون فاصل ولا استراحة، وهناك أيضا أزماتٌ اجتماعية تجعلهم يلوكون ماضيهم كالعلكة بلا توقف، وكأنهم يحيون مُتقوِتين عليه، لا يملكون سواه زادا ورواء. لا يخلو الأمرُ مِن خطورة برغم بريقه، فالماضى قد يتحول إلى سجن لا يستطيع المرءُ الفكاك منه، فخ لا يقوى على مغادرته وإن أراد، وقد ينمو بمرور الوقت وحشا يبتلع الحاضرَ والمستقبلَ على حدٍ سواء.

***

فى بعض الأحوال قد يصبح اجترار الذكريات فِعلا باعثا على الراحة والسكينة. واحة للقاء مَن ذهبوا وعزَت رؤياهم. كثيرا ما رأينا جدودا وجداتٍ يَلِجون الماضى ويستعذبون البقاءَ فى رحابه لفترات قصرت أو طالت. يتوغلون فيه غير آبهين للحظاتهم الراهنة، يستغرقون فى حكاياتٍ لا تنتهى، يستخرجون نفائسهم، ينسلون مِن واقعِهم إلى الصور الفوتوجرافية القديمة التى يحتفظون بها، ينتقلون فى فضاءها إلى زمن آخر، حتى تكاد أطرها تضمُهم مع مَن فيها مِن شخوص.

يصبح اجترارهم الماضى مَسَرتهم الوحيدة وبوابتهم إلى الألفة والدفء.

منذ سنوات عِدة، صادفت امرأة عجوز تعيش بمفردها فى طَلَلٍ. لم يكن أبدا بيتا بالمعنى المتعارف عليه، بل بقايا بيت، تهتز جدرانه إذا زارها زائرٌ ويكاد سلمه ينهار كلما وطأته الأقدام. كانت المرأة تستقبل مَن يمرون للاطمئنان على حالها هاشة باشة، لا تعرفهم ولا يعرفونها، لكنها تُظهِر التِرحابَ والودَ العميق وتنادى على خادمتها أن تأتى بزجاجات المياه الغازية وأكواب الشاى. يجلسُ مِن حولها الناس فتخبرهم عن زوجِها وأقربائِها بشغفٍ كبير.

مَن اعتادوا زيارتها عرفوا ألا خادمة ولا عائلة. هى نفسها كانت تدرك أن بيتها خاوٍ إلا منها، وأن مطبخها لا يحوى سوى شِباك عنكبوتٍ عجوز، لكنها لا تفتأ تهرب مِن وحشتها إلى الذكريات وتجترها، إذ لم يعد فى القلب سواها. صارت المرأة فى عقلى ذكرى، أجترها مِن حين إلى حين.

***

فى بعض الظروف قد يصبح الاجترار وسيلة مُهمة ومؤثرة؛ لا للفرار مِن العالم الخارجى، بل على العكس، للحفاظ على خيوط متينة تربط المرءَ به وتشده إليه. أتصور شبانا مَلقيين فى الزنازين المُعتِمة، لا يملكون سوى اجترار أحداث وذكريات لا تزال بعد طازجةٍ، تخففُ عنهم المرارة وتربطهم بعالم الحرية، ينفصلون من خلالها عن حيزهم الضيق ويدلفون إلى سعتها وبراحها، متمنين ألا يصبحوا ذكرى يجترها الآخرون.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات