طاولة نادى الجزيرة - مدحت نافع - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 4:26 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

طاولة نادى الجزيرة

نشر فى : الإثنين 4 مايو 2020 - 10:20 م | آخر تحديث : الإثنين 4 مايو 2020 - 10:20 م

كان أبى يصحبنا معه يوم الجمعة إلى نادى الجزيرة، نمر أحيانا فى طريقنا على صديقه المستشار عبدالحميد يونس، نقلّه من بيته فى جاردن سيتى، نصل النادى قبل موعد صلاة الجمعة بساعتين أو أكثر، أذهب وأخى لنلعب الكرة ونأكل الآيس كريم، ويجلس هو مع أصدقائه على طاولة مستديرة، تتسع تباعا بشكل ملفت على ملعب الكرة الرئيس، يتوافد عليها أعلام القلم والسياسة والاقتصاد، يعرف لها هالة من وقار حتى يأنس المار بها إلى حديث أصحابها وإن لم يميّزه، لكن أحدا لا يقترب منها بغير دعوة، تلفحه طاقة مخيفة من الكاريزما المركبة لأصحابها، فيلقى التحية بأدب ثم ينصرف فى هدوء!
كذلك الشباب والصغار الذين أتوا بصحبة هؤلاء الكبار، فلا يرتدّون إلى الطاولة إلا بدعوة من ذويهم للاقتراب والسلام على شيوخها، وتقديم نبذة عن حالتهم الدراسية ومستواهم فى التحصيل، وأحيانا لالتقاط بعض حبّات السودانى اللذيذة التى كان يأتى بها فى أكياس كبيرة الدكتور على والى وزير البترول والثروة المعدنية الأسبق. على تلك الطاولة جلس بانتظام مع والدى وصاحبيه، المهندس عبدالحميد أبوبكر صاحب الدور المعروف فى تأميم قناة السويس، والذى عرف لاحقا بأبى الغاز الطبيعى فى مصر. وعليها جلس الكاتب الكبير موسى صبرى، والسفير على الداغستانى، والشاعر محمد التهامى، ورجل المخابرات الشهير إبراهيم البغدادى.. وكذلك العديد من الأعلام الذين منهم من كان يحرص على التجمّع الأسبوعى، ومنهم من كان يأتى زائرا، وكلهم ــ فيما أذكر ــ لم تخل من رصدهم الموسوعة القومية للشخصيات المصرية البارزة، الصادرة عن الهيئة العامة للاستعلامات فى تسعينيات القرن الماضى، والتى ضمت فى طبعتها الأولى نحو خمسمائة شخصية مصرية.
***
طاولة أبى وأصحابه كانت أول بنك أفكار أعرفه فى حياتى. كنت كلما اقتربت ملتمسا شيئا من الوالد، أقف غير بعيد، انتهز لحظة سكون، وحتى تأتى تلك اللحظة كان فيض المعلومات والتحليل والنقد الذى وردته بغير قصد أكبر من استيعابى، لكن ما علق منه بذاكرتى وساهم فى تكوينى لم يكن بالشىء اليسير. بالقطع تعجز الذاكرة عن رصد التفاصيل، لكننى كنت أحظى بدرس خصوصى لدى عودتى إلى البيت، إذ لم أعرف يوما مر بطفولتى لم أتعلم فيه شيئا من والدى، وكان محتوى ما أتعلمه أعقد مما يهضمه ويسيغه أبناء جيلى، غالبا لأن أبى كان كبيرا فى السن، غنيا بالثقافة، تراكمت لديه معارف جيلين قبل مولدى، صار خلالها لواءً بالجيش ووكيلا لوزارة الثقافة، حصل على ليسانس الحقوق وهو برتبة صاغ (أى رائد)، وحصل على ماجستير فى العلوم السياسية لاحقا... وكان يسابق الزمن كى ينقل لى خلاصة تجاربه وأدوات تفكيره التى أنارت لى طريق المعارف كلها.
هى أدوات التفكير إذن التى لا يمكن أن تمحوها السنون. حفرت فى وجدانى حفرا، تماما كما الأسلوب الذى كان يدار به النقاشات. لم نسمع أحدا من روّاد الطاولة تجاوز فى حق محدّثيه، لم نسمع صوتا ارتفع إلا مزاحا، وكان كل واحد منهم يحمل تاريخا ومكانة، حقيق على أن يذود عنهما ويثور لهما، خاصة إذا اتسعت رقعة الاختلاف كاشفة عن يمينيين ويساريين، عن رأسمالية وطنية واشتراكية، عن علمانية وأصولية.. كل ذلك لم يبرر أبدا أن يخلع أحدهم عن نفسه وأصحابه رداء الوقار والاحترام، بل والحب الذى امتدت جذوره طويلا لما بعد تساقط أوراقهم الواحد تلو الآخر.
نشرة أخبار التاسعة التى نشأنا على توقير بدء إذاعتها، وخشعت أصواتنا فلا تسمع إلا همسا، تنساب أخبارها أسبوعيا على طاولة نادى الجزيرة أنسجة وخيوطا، يصنع منها المفكّرون أقمشة متعددة الألوان والأشكال. إن اتسع علمك وقل إنكارك فسوف تسرّ بكل الأقمشة على اختلافها، وإن ضاق أفقك وكرهت التنوّع والاختلاف، فسوف تضيق بكل ما فوق الطاولة ومن حولها.
***
كان أحدهم يداعب صاحبه سائلا عن صحة شائعة تدبيره اغتيال الملك فاروق مسموما فى إيطاليا، فما كان من المسئول إلا أن ينكر باسما ولا يتكلّف الضجيج، أو ينقلب الحوار طعنا وذما وسخفا. كل الأمراض التى عرفها مجتمعنا لاحقا ونضحت بها تداعيات ثورة يناير، كل السخافات وثقل الظل الذى اشتهر به بعض الموصوفين بالثوريين، حتى كرههم الناس وانصرفوا عن شعاراتهم، لم يكن لها مكان على طاولة الكبار. فى حديث السياسة الذى غابت عنه أصول وآداب الحوار خسر الولد أبويه، وخسر الأخ إخوته. فى حديث الاقتصاد الذى غابت عنه أدوات التحليل والفهم الصحيح لأبعاد المشكلة الاقتصادية، ظن البعض أنهم امتلكوا وحدهم الحقيقة المطلقة، وأنْ لا وزن لأى رأى مخالف لرأيهم أو نظرية تتعارض مع معتقدهم.
إلى جانب هذا النوع من المنتديات والصالونات الفكرية الممتعة، كان أبى عضوا فى شعبتين بالمجالس القومية المتخصصة، وكانت الشعب المختلفة لتلك المجالس ملتقى مهما لأصحاب الرأى، ومخزنا ثريا للأفكار، نتمنى لو وجدنا له مثيلا اليوم. تلمس ذلك بوضوح فى منتجاتها التى تغص بها المكتبات، ولا تجد من متخذى القرار من يهتدى بها على أهميتها وندرة محتوياتها!. كان مجلس الشورى أيضا يضم فى عضويته العديد من أقطاب الفكر والمثقفين، الذين نطمع أن يعودوا إلى أروقته فى نسخته الجديدة التى شرعها الدستور.
كم أفتقد اليوم طاولة نادى الجزيرة. وددت لو أنى أسافر عبر الزمن فأعود إليها كهلا أربعينيا خاشعا صامتا فقط كى أتعلم. كم أفتقد أبى وأصحابه الذين سبقوه، والذين لحقوا به فى دار الحق. كم أفتقد صلاة الجمعة فى مسجد النادى التى كنا نمازح أبى أن خطبتها قصيرة جدا، وكان يراها مثالية بلا تكلّف ولا تطرّف ولا «فزلكة» (أصلها فى العربية الفصحى فذلكة وتعنى الإجمال بعد التفصيل). كم أفتقد تلك الأيام وأرجو لو هيأ الله مثلها لابنى وابنتى.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات