جوانب اقتصادية للإعلام - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 4:52 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جوانب اقتصادية للإعلام

نشر فى : الأحد 4 يونيو 2017 - 9:00 م | آخر تحديث : الأحد 4 يونيو 2017 - 9:00 م

اقتصاديات الإعلام باتت فرعا مهما من أفرع دراسات الاقتصاد والإعلام على السواء. ليس فقط من المنظور الجزئى الذى ينظر من خلاله إلى تدفقات رءوس الاموال والتدفقات النقدية داخل وخارج الشركات والمؤسسات العاملة فى المجال الإعلامى، ولكن من زاوية أن الكثير من التغيرات التكنولوجية والتشريعية والمالية والكثير من الاندماجات والاستحواذات العالمية التى دخلت مجال الإعلام خلال العقود الثلاثة الماضية، كان لها أكبر الأثر على تشكيل خارطة الاقتصاد العالمى والتأثير فى مسار عولمة صناعة الإعلام والتأثر بها.
دراسة الإعلام تهتم بقضايا حرية التعبير وسهولة الوصول إلى الإعلام والأثر الاجتماعى للمحتوى الإعلامى، والآثار المترتبة على استحداث تكنولوجيا جديدة فى الاتصالات، كل ذلك يثير أسئلة كثيرة ذات طابع اقتصادى، فالمشكلة الاقتصادية معنيّة بما الذى ينتج؟ وكيف ينتج؟ بما يتضمنه ذلك من تكنولوجيا ومؤسسات منتجة، ولمن ينتج؟ ومن المستفيد من المنتج ذاته ومن عائداته وأرباحه.
اقتصاديات الإعلام مصطلح يتم توظيفه عادة للإشارة إلى مختلف الأنشطة التشغيلية والمالية للمؤسسات المنتجة والموزّعة لشتّى منتجات الصناعات الإعلامية.
هناك إذن إطار اقتصادى كلى وآخر مؤسسى لاقتصاديات الإعلام..الإطار الاقتصادى مكوّن من معايير وقيود تفرضها الخيارات الاجتماعية (وهى متصلة بالاقتصاد السياسى)، وأخرى تفرضها آليات صناعة القرار المؤسسى والاستهلاكى (وهى متصلة بالاقتصاد الجزئى) وثالثة تتعلّق بكليّات الاقتصاد (وتتصل بالاقتصاد الكلى). أما الإطار المؤسسى فهو مكوّن من أساسيات المنشآت الصناعية، والجوانب الوظيفية المختلفة للعمليات المؤسسية، والطلب الاستثمارى على تلك الصناعة نظير عائدات مناسبة، وأثر العولمة على النشاط الإعلامى.
***
عام 1996 أصدر الكونجرس الأمريكى قانونا لتنظيم مختلف أسواق الاتصالات أعاد تأسيس تلك الصناعة على المنافسة عوضا عن الطبيعة الاحتكارية التى رسّخها القانون المنظّم لها عام 1934. وتناول القانون الجديد مختلف وسائط الاتصال السلكية واللاسلكية، والفضائية، والبث الإذاعى وتصنيع المعدات.
وقد شهدت الاتصالات والإعلام رواجا غير مسبوق خلال الفترة الممتدة من نهاية ثمانينيات القرن الماضى وحتى وقتنا هذا، نتيجة لانتشار الاندماجات والاستحواذات بين مؤسسات كبيرة. وقد قدّرت مؤسسة Thomson Financial حجم الاندماجات والاستحواذات فى صناعة الإعلام خلال الفترة من 1987ــ2002 بنحو 1,1 تريليون دولار!.
شهد آخر عقدين من القرن العشرين عولمة صناعة الإعلام والاتصالات من الاتصالات الهاتفية إلى الإذاعة إلى التلفزيون إلى البث الفضائى. فقبل ثمانينيات القرن الماضى كانت قطاعات تلك الصناعة محلية فى الأساس، لكن التغيرات التكنولوجية والسياسية والاقتصادية التى صاحبت هذا العقد فى الولايات المتحدة الأمريكية ــ وهى الحاضن الأكبر لتلك الصناعات ــ قد أدّى إلى دخول مفهوم العلومة على كل من الإنتاج والتوزيع لمنتجات الإعلام المختلفة. فقد زاد الطلب على البرامج مع تطور صناعة «الكابل» والقنوات الفضائية وأصبح توزيع منتجات البرامج عالميا أجدى اقتصاديا من توزيعها داخل حدود الدولة المنتجة.
كذلك ساهم تحول الدولة المتقدمة من دول صناعية إلى دول تعتمد نهضتها الحديثة على المعلومات والقطاع الخدمى فى عولمة صناعة الإعلام عبر اتفاقيات أكثر مرونة للتجارة الدولية. أيضا لا يمكن إغفال عامل انهيار الاتحاد السوفيتى والكتلة الشرقية ونهضة اقتصادات دول شرق آسيا فى زيادة الطلب العالمى على المنتج الإعلامى الغربى وخاصة الأمريكى.. نتج عن ذلك كله زيادة كبيرة فى الاستثمار الأجنبى المباشر لشركات الإعلام بصفة عامة فبحلول عام 2002 كان 100% من المجموعات الإعلامية العشر الكبرى فى الولايات المتحدة لها أفرع فى الخارج ونحو 64% من المجموعات الـ 25 الكبرى لها استثمارات عبر المحيط.
***
هناك خصائص اقتصادية للمنتج المعلوماتى والترفيهى، تجعل انتشاره عبر حدود الدولة المنتجة أمرا مربحا (حصرها بريست عام 1994 فى 12 عنصرا)، منها مثلا:
1. المنتجات المعلوماتية والترفيهية هى سلع عامة. بمعنى أنها يمكن أن تستخدم من قبل أكثر مستهلك دون أن ينقص ذلك من كمية أو جودة المنتج المتاح للمستهلكين الآخرين.. مما يعنى أن الشركات المنتجة للمنتجات الإعلامية تحقق أرباحا كبيرة للغاية بإتاحة منتجها لأكبر عدد ممكن من المستهلكين داخل وخارج حدود الدولة.
2. منتجات المعلومات لها معدل مرتفع لتكاليف الإنتاج إلى تكاليف إعادة الإنتاج، فهى مرتفعة التكاليف عند الإنتاج لكن أقل تكلفة نسبيا عند إعادة إنتاجها.
3. ارتفاع درجة عدم اليقين والمخاطر، فالقيمة الكاملة لأى منتج معلوماتى أو ترفيهى لا يمكن تقديرها إلا بعد أن يقوم المنتج بسداد كامل تكلفة الإنتاج، مما يعنى أن المنتج يجب أن يبيع منتجاته لأكبر عدد ممكن من المستهلكين، حتى يتسنى له استعادة تكلفة تطوير منتجاته سواءً الناجحة أو غير الناجحة.
4. قيمة المنتج المعلوماتى أكبر للمجتمع من قيمته السوقية. يصف الاقتصاديون هذا بتحوّل الاقتصاد إلى اقتصاد معلوماتى، تمثّل فيه المعلومات مدخلا مهما فى مختلف العمليات والمنتجات. فمع نهاية القرن الماضى أصبح الابتكار محرّكا فاعلا فى اقتصادات الدول المتقدمة، وبالتالى فقد صار حتميا سهولة الوصول إلى المعلومات من أجل مزيد من الابتكار، أدى ذلك إلى ارتفاع الطلب على منتجات المعلومات المختلفة فى العقود الأخيرة مثل الكتب، المجلات الفنية والدوريات العلمية.
وبخلاف المجلات فقد اتسمت صناعة الجرائد الورقية بكونها صناعة محلية فى الأساس. خلال العقود الأربعة الأخيرة شهدت ملكية الجرائد الورقية تنوّعا للجنسيات المالكة، فتحولت بعض الجرائد إلى مؤسسات عابرة للجنسيات، لكن ظلت هذه الحالات محدودة بالمقارنة بالسواد الأعظم للجرائد الورقية. فالجريدة الورقية مازالت منتجا محليا بامتياز وتشهد طلبا منخفضا عابرا للحدود، وذلك باستثناء حالات محدودة مثل جريدة وول استريت، ويو إس توداى، والهيرالد تريبيون الدولية، والفاينانشيال تايمز الإنجليزية والتى توزّع جميعا بشكل كبير خارج حدود الدول التى أسست فيها.
وبعكس صناعة الجرائد الورقية، فصناعة الكتب هى صناعة عالمية (معولمة). العدد الأكبر من الناشرين الذين يبيعون كتبهم داخل السوق الأمريكية هم فى الأساس مؤسسات أجنبية!. فى السوق العالمية للكتب يمثّل هذا المنتج صناعة تصديرية مهمة. قدّرت اليونيسكو حجم التجارة الدولية فى الكتب والبانفليت بنحو 9,7 مليار دولار عام 1995، وقدّرت حجم الوارادت من الكتب إلى السوق الأكبر استيرادا (الولايات المتحدة الأمريكية) بنحو 1,4 مليار دولار عام 1999. هذا بينما يظل المنتج الإذاعى محليا أيضا شأن الجرائد الورقية، على الرغم من وجود العديد من الحالات التى يتحول فيها المنتج الإذاعى الموسيقى إلى الرواج فى السوق العالمية.
ولا يمكن تجاهل قطاع وسائط الإعلام الحديثة كعامل مؤثر فى عولمة صناعة الإعلام. التطور الكبير لشبكة الإنترنت خلال التسعينيات من القرن الماضى جعلت التوزيع الدولى للمنتج الإعلامى الافتراضى ممكنا، لكن التنوّع الكبير لمليارات المواقع على الإنترنت جعل المنافسة كبيرة على اجتذاب مرتادى الشبكة الدولية، وجعل بعض الصناعات المتخصصة مثل «خطاب الأخبار» news letter تطور نموذج أعمال ناجح لتوزيع المحتوى الإعلامى بشكل كفء.
أما بالنسبة للإيرادات والتكاليف، فيظل مصدر الإيرادات الأساسى للجرائد الورقية يأتى من التوزيع والدعاية. لكن الدعاية تفوّقت على التوزيع منذ النصف الثانى من القرن العشرين حتى باتت تشكّل أكثر من 81% من الدخل لمختلف الجرائد الورقية اليومية وفقا لإحصاءات عام 2000. وعلى الرغم من التطور التكنولوجى المتزايد مازالت تكلفة العمالة تمثّل الجانب الأكبر من تكاليف الجرائد الورقية حتى بعد زيادة الاعتماد على الماكينات والمعدات الالكترونية. فتكاليف تشغيل العمالة تستنزف وحدها نحو 40% من الإيرادات التشغيلية للجريدة وفقا لبعض الدراسات الحديثة.
مازال مستقبل الجرائد الورقية غامضا فى الولايات المتحدة الأمريكية التى قادت ثورة التحديث المعلوماتى، فبين تراجع عدد القرّاء وانتشار الأمية الثقافية والتغيرات التكنولوجية العنيفة لا يمكن الجزم بالمسار المستقبلى لتلك الصناعة المهمة. لكن أيضا ليس ثمة مؤشرات على انتهاء الطلب على الوظائف التى تقدمها الجرائد الورقية مستقبلا، أو أن المؤسسات التى تصدرها لن تملك القدرة على التكيّف مع تحولات الطلب.. لكن بالتأكيد ساهم تطور وسائط الميديا الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعى فى جذب مزيد من المستهلكين خاصة من حديثى السن بعيدا عن الجرائد الورقية وبالأخص المحتوى المعلوماتى لتلك الجرائد.
***
فى بلادنا التى تزيد فيها معدلات الأمية يمكن لعدد كبير من السكان الذين لا يعرفون القراءة والكتابة أن يتابعوا وسائط الإعلام المختلفة عدا الجرائد والمجلات، وذلك للحصول على المعلومات ولأغراض التفاعل مع الدعاية والإعلان.. إذن فحجب المواقع (الخبرية تحديدا) يؤثر سلبا على التكوين المعرفى للمجتمع، ويساعد على رواج مواقع الصحف الصفراء والمعلومات المشوّشة عبر المنتديات، فكل فراغ يتركه موقع محجوب سيتم ملؤه بمواقع لا يمكن السيطرة على محتواها. وعموما فمحاولة السيطرة على الفضاء المعلوماتى هى ضرب من محاربة طواحين الهواء، فضلا عن كونها مرتفعة التكاليف المباشرة وغير المباشرة.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات