يمتلئ التراث المصرى الغنائى بأعمال لا تُنسى لقيمتها الفنية العالية، وسواء جاءت بالعربية الفصحى أو بالعامية المصرية فإنها قد حفلت بالعمق والصدق والبلاغة فى التعبير، ولا ينسى أحد على سبيل المثال أعمال الشيخ إمام التى مازالت حاضرة ومستخدمة فى جميع المناسبات حتى اليوم، وقد غنينا فى الأحزان والأفراح، غنينا فى أوقات الشدة والهم وكذلك أثناء الثورات التى قمنا بها، انطلق سيد درويش فى زخم ثورة 1919 بـ«قوم يا مصرى» لبديع خيرى، و«أنا المصرى كريم العنصرين» لبيرم التونسى، ومع نفى سعد غنى المصريون «يا بلح زغلول» تحايلا على أوامر قوات الاحتلال بمنع اسم سعد زغلول، وظهرت أيضا أغنية «يا عم حمزة» الشهيرة من قلب المعتقل، لتمجد عم حمزة؛ السجان الذى رفض معاملة الطلاب بقسوة، كما لحن سيد درويش نشيد بلادى بلادى لك حبى وفؤادى الباقى حتى اليوم مع بعض التغييرات، أما ثورة 23 يوليو فقد احتفت بها مجموعة أخرى من الأغنيات من بينها «العهد الجديد»، و«ثورتنا المصرية» التى حملت فى صدرها كلمات الحرية والعدالة الاجتماعية، كذلك جاءت «حكاية شعب» بعد بضعة أعوام لتؤرخ لعملية بناء السد العالى فى فخر ومباهاة، كما غنت أم كلثوم رائعتها «مصر التى فى خاطرى» فى عام الثورة 1952 نفسه، وظهرت غيرها عشرات الأغانى بالغة الثراء والقوة والتعبير.
•••
انعقدت على مدار العام والنصف الماضيين ندوات وحلقات نقاش متعددة طرحت موضوع الأغنية المواكبة للثورة، وكتب كثير من الشعراء والملحنين المخضرمين وكذلك النقاد عن عدم تلبية الأغانى التى خرجت إلى النور بعد الخامس والعشرين من يناير 2011 لطموحات الناس وحماستهم، كما أشاروا إلى الفقر فى الإبداع والعجز عن استلهام الروح الحماسية، رأى المنتقدون أن أغلب الأغنيات جاءت مائعة المذاق، ضعيفة اللحن والمفردات إلا فيما ندر، منها ما اقتصر على العويل ومنها ما اكتفى بترديد عبارات جوفاء حول التواريخ وسقوط الشهداء، لا تمس القلب ولا تضيف روحا ولا ابتكارا، وفى تطبيق عملى، ردد الناس فى الميادين والشوارع كلمات الأغنيات القديمة التى وجدوها أكثر قربا وملاءمة. كنت أظن أن الحكم مبكر، وأن ثمة أغانى سوف تظهر لتكون على قدر الحدث وأنها سوف تعبر عنه بشكل مرض، انتظرت وكان انتظارى محفوفا بالأمل واليقين، وقد كان.
•••
انطلقت منذ شهور مجموعة من الأغانى المختلفة، التى لم تتطلب إمكانات ضخمة ولم تحتج إلى فرق موسيقية كبرى واستديوهات للمحترفين، لكنها رغم بساطتها، انتشرت سريعا ووجدت حفاوة كبيرة من الجمهور، اخترقت العمق وأوصلت الرسالة بجدارة. المثير هنا أن تلك الأغانى لم تتحدث من قريب أو بعيد عن الانتصار والشجاعة والتضحية، ولا عن الشهداء، ولا حتى عن حب الوطن، لكنها صاغت الإحباطات والشكوك والتساؤلات بشكل عفوى مباشر، وقدمت الواقع العبثى دون محاولات للتزيين أو المراوغة، من بين تلك الأغانى أغنية قصيرة عنوانها «إيه العبارة؟»، سمعتها للمرة الأولى منذ أسابيع، وعلمت أنها تأليف وتلحين وغناء أشخاص من اتجاهات وأعمار مختلفة، وأنهم يقبلون مشاركة كل من يريد. رغم أن الاغنية خرجت إلى النور بنهاية عام 2011 بعد أحداث ماسبيرو، ورغم تغير الظروف السياسية ووصول رئيس منتخب إلى سدة الحكم بعد شهور طويلة من المعاناة، فقد ظلت الأغنية تعبر بدقة ووضوح عن الواقع المخزى المستمر، الذى يُختَطَفُ فيه النشطاء وتُلَفَّقُ لهم الاتهامات بالبلطجة وغيرها، يقول الكورال: «مين اللى حاكمنا محاكمة عسكرية، مين اللى بيوصفنا بأن احنا بلطجية؟»، «مين اللى كابتنا، مين اللى مفرقنا، مين اللى مخونا؟» تردد تلك المقاطع مجموعات كبيرة من الشباب والشابات، وتؤدى اللحن فرقة موسيقية ضئيلة العدد، لكن الأغنية تتفوق على ما أداه كثير من المطربين المحترفين طيلة الفترة الماضية، فى مقطع آخر تطرح الأغنية سؤالا ربما يكون الأكثر إيلاما بما يجلبه إلى الذاكرة من أحداث: «فين الدبابة؟».
تحمل لنا الصور الفوتوغرافية ولقطات البث الحى مشهدا متكررا فى أنحاء العالم، حيث يقف شخص أعزل فى مواجهة آلية حربية تسعى للمرور، ظهرت تلك اللقطة فى عام 1989 حين توقفت دبابات النظام الصينى القمعى أمام رجل وحيد رفض التحرك من أمامها خلال مظاهرات ساحة تيانانمن، كما ظهرت فى فلسطين المحتلة عام 2003 لكن الجرافات العسكرية الإسرائيلية لم تتوقف أمام راشيل كورى وقتلتها دهسا، أما فى التاسع من أكتوبر عام 2011، فلم تدهس مدرعات النظام المصرى المواطنين فى الشوارع فقط، بل إنها طاردتهم حين حاولوا الفرار فوق الأرصفة وعبرت على أجسادهم. بعد مرور سنة ونصف على الثورة وما يقرب من عام على تلك الاحداث لم يتم تقديم المسئول الحقيقى إلى المحاكمة.. هكذا كُتِبَت أغنية ما بعد الثورة لتُعَبِّر بوضوح، ليس عن الانتصار والفخر والفرح، بل لتتساءل مصدومة ومستنكرة عن الدبابة وسائقها وقاتلنا.
•••
تلك النوعية من الأغانى هى التى سوف تؤرخ للثورة المصرية ولحلقاتها التى لم تنته بعد، ورغم ظنى أنها المرة الأولى التى تخرج فيها أغنية بعد ثورة أسقطت رأس نظام، لتلقى مثل تلك الأسئلة، ومع أن الأمر يبدو محبطا بعض الشىء، لكننا ربما نصنع فى القريب أغنية أخرى يشارك فيها المظلومون والمدهوسون، ومن طلبوا الحرية فقضوا لياليهم فى المعتقلات والسجون.