حي "لابا" لا يعرف النوم. ربما يرقص البرازيليون في مدينة ريو دي جانيرو في كل مناسبة. إلا أنهم في هذا الحي يرقصون، حرفيا، ليل نهار. الموسيقى تصدح من كل الأركان في كل ساعة من ساعات اليوم. وهواة الرقص يتمايلون على أنغام الموسيقى أمام المطاعم والبارات، وعلى أنغام عزف المحترفين والهواة المنتشرين في الميادين والحدائق.
كان الكل مبتهجا إلا هو. يسير سامقا وطويلا. ظهره منحن من التعب. شعره أشعث ملبد وطويل. جلده أسمر محترق اختلط فيه العرق بالطين بالتراب. يتحرك ببطء وقد غطت كتفيه بطانية ثقيلة هي كل ما يملكه من حطام الدنيا. هي بيته وملاذه وغطاؤه ومأواه. يغلبه التعب فيفرشها وينام عليها إن استقرت على حجر أو تحتها إن استقرت على حشيش طري. تتحرك قدماه فيحتك جلدها المخشوشن المشقق بحجارة الطريق.
وقفت أرقبه وهو يقترب من "أقواس لابا" التي تشبه سور مجرى العيون ومن الجماعات الراقصة المنتشرة تحتها. اجتذبته الأنغام المنبعثة من جماعة بعينها فوجه جسده نحوها. أطاعته ساقاه فتحركتا حثيثا نحو الجمع الملتف. يرجع كثير من تراث الرقص والموسيقى والغناء في معظم القارة في أصوله إلى إفريقيا. وصل أمريكا اللاتينية مع شحنات العبيد التي جلبها المستعمرون إلى القارة فأصبحوا جزءا من نسيجها البشري وامتزجت فنونهم وإيقاعاتهم بتراث أهلها فتصبح جزءا من طبيعتهم وحياتهم وبهجتهم الدائمة.
دفع نفسه بين الحشد واقترب من القلب حيث يتمايل الراقصون بملابسهم الزاهية. الرقصة التي يمارسونها احتفالية غزلية. على الجانب انهمك عازفو الطبول في العزف في حماس واضح. تراص الراقصون بملابسهم المزركشة المميزة حول راقص وراقصة متواجهين. يتحرك جسداهما بهدوء على إيقاعات الطبول المنتظمة تارة نحو اليمين وتارة نحو اليسار. السيقان مفتوحة وكذا الأيدي. يتبادلان النظر وهما يتمايلان في تناغم ويتحركان تارة مع عقارب الساعة وتارة عكسها. لا يتلامسان. يربطهما خط النظر وابتسامة البهجة. من حين لآخر يتحرك راقص أو راقصة من الأطراف. يقترب بنفس الخطوات الملتزمة بإيقاع الطبول نحو نظيره ويتبادل معه نظرة استئذان. يتراجع الراقص الأول وهو يفسح مكانا للوافد الجديد وتستمر الرقصة إلى أن يتكرر نفس الطقس مع الراقصة فتحل ثانية محل الأولى وهكذا.
أصبح صاحبنا قريبا من قلب الحلقة. غائب الوعي تماما عما يجرى حوله بفعل الكحول أو الكلة أو عقار مخدر آخر أصابه بوهن وخدلان. لكنه حاضر بكيانه في قلب المشهد ومع إيقاع الموسيقى. تحرك جسده مع الإيقاع واقترب من الراقصين في المنتصف. تمايل يمينا ويسارا وتمايلت معه بطانيته المتربة. التفت الراقص المنهمك في المنتصف ليجد نفسه في مواجهة هذا المتسول الشريد. تحركت عيناه بخفة ووقعتا على عيني زميلته الراقصة. عاد لينظر مرة أخرى في عيني العملاق الشارد الذي اقتحم الحلقة. تواجه الجسدان وهما يهتزان. بدأ الراقص في التراجع ليفسح مكانه للوافد الجديد. تقدم من المركز ليواجه من أصبحت الآن زميلته الراقصة. تمايل جسده مرة أو مرتين. اقترب منها.
انقطع العزف فجأة فتوقف الكل عن الحركة. نظر حوله في قلق. بدا أنه فهم الرسالة تصورت أنني فهمتها أيضا. حل ذكي وأنيق للتخلص من المتطفل الشارد. تتوقف الموسيقى ويتوقف الرقص فيغادر هو ثم تعود المجموعة للرقص من جديد.
تراجعت خطواته. احتك جلد كعبه الميت بالأرض الخشنة. قطع حفيفه الصمت. بدا الظهر أكثر انحناء وهو ينسحب متخاذلا. عادت الطبول للعزف بينما كان يبحث عن مخرج من حلقة الراقصين. اقترب من محيط الحلقة فمدت إحدى الراقصات يدها ودفعته في كتفه فجفل. وقعت عيناه على راقصة أخرى تقف بجوارها. ابتسمت له وربتت على كتفه الآخر. دفعته دفعة رقيقة ليعود إلى داخل الحلبة. تتلقاه عينا الراقصة المنتظرة في المركز. تزوغ عيناه وتتنقلان على وجوه المحيطين به بحثا عن حقيقة الرسالة: هل أرقص أم أغادر؟
استقبلته وجوه باسمة كما لو كانت كلها تقول: الرقص حق للبشر وانت لست استثناء أيها الغريب الشارد.
اطمأنت عيناه وارتخت ملامح وجهه، وعاد بخطوات واثقة إلى قلب الحلقة. يستمر الرقص وتتواصل البهجة.