أحببت جدا كتاب (الإمساك بالقمر) الذى صدر عن دار الشروق للكاتب الكبير محمود الوردانى وتضمن أطيافا من سيرته الذاتية الحافلة بمحطات يصعب فيها الفصل بين ما هو ذاتى يتعلق بمسيرة الكاتب وما هو موضوعى مرتبط بمسيرة الوطن بكامله.
والميزة الرئيسية فى هذا الكتاب أنه من مواليد المصادفة البحتة، فقد بدأ صاحبه كتابته فى شكل أعمدة صحفية أسبوعية لصحيفة «أخبار الأدب»كنت أتابعها بشغف، إلا أنه انتبه لأهمية ما يكتب وأعاد بناءه ليخرج فى شكله الحالى جوهرة ثمينة دالة على زمانها تماما.
دفعنى لقراءة الكتاب صديق عراقى كبير هو فخرى كريم صاحب دار المدى ذو الخبرة الكبيرة بالسياسة والكتب وما فيها وقد ظل طوال مراحل القراءة يستسفر منى عما لا يعرفه فى الكتاب من أسماء ووقائع ذات صلة وثيقة بالحركة الوطنية المصرية منذ نهاية الستينيات وحتى الآن.
أعادنى الكتاب حين قرأته لرواية جميلة من روايات الوردانى لم تأخذ ما تستحق من اهتمام وهى رواية «بيت النار» التى اشتغلت أيضا على جوانب من سيرته النضالية والإنسانية وأظهرت بطله كأحد النماذج الساطعة لمثقفى الطبقة الوسطى المصرية الذين سعوا بفضل التعليم الذى أتاحته الثورة لتحقيق حلم الحرية والاستقلال ثم دفعوا أثمانا غالية لأجل قناعات فكرية راسخة.
ينتمى الوردانى لجيل السبعينيات الذى قدم رموزا وعلامات كثيرة ونجوما احترقوا فى الطريق إلى الأمل، وظل مثل كثيرين منهم يضع قدما فى الأدب وقدما فى السياسة لكنه تمثل فى كتابه المعنى المقصود فى رباعية صلاح جاهين الشهيرة (أنا اللى بالأمر المحال اغتوى / شفت القمر نطيت لفوق فى الهوا / طلته ما طلتوش / إيه أنا يهمنى/وليه ما دام بالنشوة قلبى ارتوى).
دخل مؤلفنا معترك الحياة العامة بفضل رعاية مباشرة من شقيقه الأكبر عبدالعظيم الوردانى الذى كان صحفيا لامعا فى مجلة الإذاعة والتلفزيون فى ذروة تأثيرها وهو إنسان نبيل عرفته شخصيا وواسع المعارف وثيق الصلة برموز جيل الستينيات الأدبى.
وأغلب هؤلاء صال وجال فى بيتهم بالعمرانية ونعم برضا والدة الوردانى التى تستحق بحد ذاتها عملا أدبيا منفصلا، بدلا من لقب «مناضلة» الذى نالته فى الكتاب، فهى أم بكل ما تعنيه الأمومة من معانٍ نبيلة وتذكر أدوارها بما فعلته أمهات عظيمات كن راعيات للأمل طوال تاريخنا.
كتب الوردانى عن أثر نشأته فى بيت ينظر للكتاب باهتمام ولا يسخر من الكتابة رغم صعوبة أشكال الحياة فى حى مثل شبرا بين خمسينيات وستينيات القرن الماضى، وقدم قطعة أدبية فريدة أقرب ما تكون لوثيقة انثربولوجية عن زمن مضى وسجل من موقعه كذلك طبيعة الحراك الأدبى الذى عاشه هذا الجيل ومصائرهم المختلفة.
لم ينشغل أبدا برسم صورة كاريكاتيرية مبالغ فيها حول ممارسات بعضهم أو الطعن فيها، بل ما سعى إليه أنبل من ذلك وبقى ما وصل للقارئ عنهم فى الكتاب مضيئا ولامعا يلتقط بحساسية كبيرة أجمل فى إبداعهم وسعيهم لتجاوز الظرف الاجتماعى والالتحام فى فعل سياسى بهدف الانتصار لقيمة الحرية.
وفى ظل هذا السعى ظهرت كتابات الأبنودى وأمل دنقل ويحيى الطاهر عبدالله وبهاء طاهر وعلاء الديب وإبراهيم أصلان وإدوار الخراط وإبراهيم فتحى وجميل عطية إبراهيم وصنع الله إبراهيم وصلاح عيسى ومحمد البساطى وعبده جبير وأحمد فؤاد نجم والمخرج محمد كامل القليوبى والأخير بالذات هو السبب الرئيسى فى ميلاد الكتاب، فقد أراد الوردانى أن يودعه بمرثية لائقة فانتهى إلى كتابة جدارية فاتنة عن تاريخ حى لثقافتنا وأدبنا المعاصر خالية من الضغينة.
نظر الكتاب بإنصاف تام للدور الذى لعبه الراحل العظيم عبدالفتاح الجمل فى إطلاق كل هذه المواهب الكبيرة بتواضع نادر، فهو لم ينشغل أبدا بتقديم نفسه وعاش زاهدا مستقلا بكل ما تعنيه بالكامل ولا يمكن اغلاق الكتاب دون التفكير بأسى فيما انتهت إليه حياتنا الثقافية وقد غاب عنها أصحاب الوجوه النادرة والأسماء التى كانت تعطى بلا حساب.
يشعر قارئ الكتاب بمتعة عظيمة وهو يقرأ فصوله التى تكمل جهودا أخرى سعت نحو تأمل أوضاع المثقفين المصريين فى لحظات التحول، فلا يمكن أن يكتمل معناه دون وضعه فى سياق كامل من الكتب التى انشغلت بأحوال المثقفين وتضم كتابات الراحل الكبير صلاح عيسى وبالذات «مثقفون وعسكر» و«تباريح جريح» ودون التفكير فى مجلة «جاليرى 68» وكتاب «بين كتبة وكتاب» الذى كتبه الصديق ريشار جاكمون لفهم ديناميكيات الحياة الثقافية والكتاب الذى كتبه أخيرا الفنان أحمد عز العرب تحت عنوان حكاية طائر الطباشير وكلها أعمال تشير إلى تاريخ للمثقف المصرى من الواجب الاعتزاز به.
تحية كبيرة لصديقى العزيز محمود الوردانى ورجاء حار بأن يكمل ما بدأ ويتوقف قليلا أمام تجربة العمل والعيش فى الواحات التى أطلت دافئة مثل ومضة فى كتابه الجميل.