رغم أن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، فإن الأمر لا يبدو كذلك فى رؤية الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الحكم، فالمبادرات الاقتصادية الجسورة التى يطرحها الرئيس والتى تبدو ذات مذاق ليبرالى تعتمد على اقتصاد السوق، يقابلها تراجع إلى الخطوط الخلفية سياسيا، وكأننا على أعتاب خليط مشوه لدولة تجمع بين قسمات متنافرة من عصور عبدالناصر والسادات ومبارك بكل ما فيها من تضييق على الحريات، واشهار السلاح الأمنى لمعالجة التناقضات الاجتماعية، وتشديد قبضة الدولة الثقيلة على المواطنين!
على الصعيد الاقتصادى، يطلق الرئيس مشاريع قومية ضخمة، منها حفر تفريعة جديدة لقناة السويس والتى نجح ــ بشعبيته الجارفة عقب إسقاط نظام مافيا الإخوان ــ فى تكوين اصطفاف جماهيرى خلفها تمثل فى جمع أكثر من 6 مليارات جنيه من مختلف طبقات الشعب المصرى فى بضعة أيام لتمويل عمليات حفرها فى زمن قياسى، كما أطلق مبادرة لاستصلاح 4 ملايين فدان، بدأ العمل فى استصلاح المليون الأول منها بالفعل، كما بدأت الدولة فى الاهتمام بمشروع توشكى لإقالته من عثراته، وانشاء المشروع اللوجيستى العالمى للحبوب والغلال فى دمياط، فى وقت تستعد فيه الدولة لتنظيم مؤتمر مصر الاقتصادى فى فبراير القادم، والمقرر أن يبحث فى انشاء عشرات المشروعات الضخمة بمليارات الدولارات، وخاصة فى محور قناة السويس.
أما على الصعيد السياسى، فيبدو الرئيس السيسى متحفظا للغاية تجاه كل القيم الليبرالية المصاحبة للاقتصاد الحر الذى قال إنه يؤمن به، رغم أن مشروع القناة الجديدة كان مثالا اقتصاديا ناجحا لفكرة التعاونيات التى من الممكن ان تكون النموذج الأنسب لحل أزماتنا الاقتصادية المتفاقمة. وقد تمثل هذا التحفظ فى الكثير من الممارسات منها استمرار القبضة الحديدية فى تطبيق قانون التظاهر بدلا من اجراء تعديلات ديمقراطية عليه، مما أدى إلى إصدار أحكام قاسية بالسجن ضد عشرات الشباب، والتوسع فى السجن الإدارى للمتهمين فى قضايا سياسية، ومنع السياسة فى الجامعات، وتجنيد طلاب للتجسس على زملائهم، وشن هجوم حاد على مؤسسات المجتمع المدنى بدلا من مساعدتها على ممارسة عملها بشكل صحيح بعيدا عن شبهة التربح من التمويلات الأجنبية، وإشاعة مناخ يرى فيه البعض أنه يقلص مساحات الحريات على مستوى الاعلام والصحافة، مع بروز اتجاه لعسكرة المجتمع بالتوسع فى المحاكمات العسكرية للمدنيين، وتكليف الجيش بمساعدة الشرطة فى حماية المرافق والمنشآت العامة، وهى مسئوليات لا ينبغى ان تقوم بها المؤسسة العسكرية إلا فى حالات الطوارئ، نهاية بتأجيل الانتخابات التشريعية، المفترض أن تفضى إلى برلمان يشارك الرئيس فى الكثير من الصلاحيات طبقا للدستور الجديد.
قد يرى البعض أن الرئيس يلجأ لهذه الإجراءات مضطرا، لمواجهة مؤامرات مافيا الإخوان وشركائهم فى الخارج، ومعاركهم الإجرامية التى يشنونها ضد الجيش فى سيناء، إلا أن المعركة الحقيقية ضد الإخوان لن يكتب لها النجاح إلا بطرح بديل سياسى ثقافى ديمقراطى لأفكارهم، والتوجه نحو التوسع فى الحريات، واحترام حقوق الانسان، وفتح المجال السياسى لكل فئات الشعب المصرى، ليكونوا جزءا مع المعركة الفكرية ضد مشروع الإخوان الظلامى المتخلف، وظهيرا قويا للجيش فى معاركه العسكرية ضد مؤامراتهم فى سيناء.
فى مناخ الحريات وحده، نستطيع أن نصوب الأخطاء، ونقترح البدائل، ونحاصر الفساد، ونحارب الفقر، ونطرح التساؤلات الكبيرة بشفافية وفى وضح النهار، حول رؤى الرئيس للسوق الحرة، والتوزيع العادل لعوائد الثروة الوطنية، وبناء دولة العدل والقانون، بدلا من أن نبحث عن إجاباتها فى العمل السياسى السرى تحت الأرض.. وضد الدولة!