عبر عشرات العقود من السّنين كُتبت الألوف من الكتب وعُقدت الألوف من المؤتمرات من أجل تجديد الفكر العربى محتوى ومنهجا فى التفكير الجديد. لكنّ تلك الجهود ظلّت محصورة فى دوائر النخب العربية المثقفة واهتماماتها. لقد فشلت تلك النخب فى جعل ذلك التجديد تيارا عاما يتبناه المواطنون العاديون وينشرونه فيما بينهم على نطاق واسع.
الآن، وكجزء من حراكات وثورات الربيع العربى، ينحت شباب وشابات الأمة العربية، بملايينهم الصاخبة الغاضبة، ينحتون فى الواقع العربى أفكار التجديد وقبولها من قبل تلك الملايين، وبالتالى يوصلونها إلى المواطن العادى.
ما عادت مسألة الخروج على الفكر السائد، والثورة على ممارساتها، تقبع فى أبراج عاجية، تلوكها ألسنة البورجوازية المتنعّمة، وإنما أصبحت شعارات ترددها ملايين الحناجر فى ساحات وشوارع مدن عربية كبرى مثل بيروت وبغداد وعاصمة الجزائر والخرطوم.
فشعار اللا طائفية، ومعه التحرر الفكرى والنفسى من هيمنة علاقات القوة من قبل رجالات طائفية الدين والمذهب، يصرخ به عاليا الأب والجد والشاب والطفل، وتزغرد به نغما حلوا حناجر الجدَّة والأم والابنة.
وشعار إلغاء المحاصصة السياسية والمالية فيما بين متنفذى القبائل والعشائر والعائلات والأحزاب والعساكر ترفعه تلك الحناجر فى وجه من كانوا يستغلونهم وينهبون أموالهم، وذلك من خلال خطابات الكذب والمتملُّق المنافق واللعب بالعواطف.
والرّفض التام للإصلاحات الجزئية المظهرية، القابلة للانتكاسة بعد هدوء الصخب الجماهيرى، هو ممارسة لعقلية الشك، ولتجنب اللدغ من نفس الجحر مرات ومرات، فالناس ما عادوا يأمنون لاستقالة هذا الرئيس أو ذاك الوزير. فكرهم الجديد يؤمن بأن التغيير الجذرى الشامل هو وحده الصادق والقادر على تغيير الحاضر وبناء المستقبل. إنه فكر مستقبلى ثائر على الفكر الماضوى المتثائب، وعلى فكر الحاضر الملثم بألف قناع انتهازى شيطانى.
وبالطبع فإن شعارات توفير الخدمات الاجتماعية، من صحة وتعليم وعمل ومسكن لائق وغذاء بأسعار معقولة، وكحق من حقوق المواطنة بدلا من اعتبارها كمنح تعطفية من هذا القائد أو ذاك، أو كممارسات أبوية لرعيته وأبنائه، دليل انقلاب فكرى تجديدى بالنسبة لمفاهيم العدالة الاجتماعية والمساواة والتوزيع العادل للثروة.
ورفع شعار وجود قانون انتخابى عادل، ممثل لكل مكونات المجتمع كمواطنين متساوين فى اختيار السلطة التشريعية، هو قفزة فكرية للانتقال إلى ديمقراطية شعبية قابلة للمساءلة والمحاسبة. ما عاد فكر الملايين يقبل بالبرلمانات المظهرية الخاضعة للسلطة التنفيذية أو للقيادة السياسية الحاكمة.
ما يهمنا هو الوصول إلى نتيجة مفادها أن تلك الشعارات، وغيرها كثير، ليست فقط شعارات مطلبية معيشية، وإنما هى أيضا ممارسة لعقلانية تحليلية نقدية، تعلمت من أخطاء وخطايا الماضى، بحيث أصبحت تطرح أفكارا جديدة، وتنتهج أساليب جديدة فى ممارسة تفعيل تلك الأفكار. ما يهمنا أيضا الانتشار الهائل والقبول الجماهيرى الكبير، بعفوية وصدق وحماس، لتلك الشعارات، بحيث يمكن اعتبار ما يجرى إرهاصا لتجديد فكرى، بدأ، وسيستمر فى المستقبل البعيد.
إنها مشاركة حقيقية إضافية لمحاولات جادة طويلة الأمد قام بها مفكرون ومثقفون عرب عبر مئات السنين. إنها أيضا إنهاء لاعتقاد سابق بأن تجديد الفكر ممكن أن يأتى من خلال فقهاء السلاطين أو عساكر الانقلابات أو مثقفى العرب فى حجرات مغلقة ليناقشوا أفكار التجديد، إذ عليهم أن يندمجوا فى صفوف ملايين الساحات والشوارع، ليستمعوا ويتفاعلوا ويتعاونوا معهم من أجل بلورة فكر جديد مرتبط بواقع أولئك الملايين وأحلامهم وآمالهم المستقبلية.
عند ذاك سننجح فى بناء تجديد فكرى عربى ذاتى يركز على أولويات الواقع العربى ويبتعد عن عبثيات الآخرين الفكرية، وما أكثرها.