مرة أخرى يعود العالم للعد التنازلى.. تضاء سماء الكون... تنار الأبراج العالية وتخرج المراكب للشواطئ ويتحد البشر، كل البشر، فى لبس الأجمل والأكثر بهجة.. يخرج العالم ليودع عاما بكثير من الفرح. البعض يردد كانت سنة كبيسة وحزينة جدا فنودعها ونبقى على بعض من الأمل.. الآخرون وحتى الأكثر تشاؤما لا يملكون إلا فسحة الأمل.. لا مساحة أخرى إلا الموت.. فإما أن تتمسك به، أى الأمل أو المتبقى منه، وإما أن تعود إلى الظلمات.. هناك حيث كثر السواد حتى هرب الليل منه.. لا سواد الليل لا يعنى الظلمات بل هو سواد الاسترخاء فى حضن القمر حتى الهلال منه، سواد الليل هو النوم مستيقظا فى بحر من السكينة.. أما سوادهم فهو حتما شديد العتمة والكراهية والكفن المتعفن فى جاهليتهم المتأخرة!
•••
فى صباح اليوم الأول عاد الكون إلى حياته المعتادة متثائبا بعض الشىء حاملا بعض تعب الاغتسال من عام شديد التعب والحزن.. لم يلبث اليوم ينفض عنه كسل الليلة الأخيرة حتى عاد الإيقاع نفسه حديثا طويلا عن السياسة والارهاب والحياة ما بعد ٢٠١٤ وتنديدات هيئات المجتمع المدنى واقتراحاتها وكثير من التخبط فالمنظمات غير الحكومية ليست بأجمعها واحدة وليست كلها خيرا ولا كلها شرا حتما ولا هى أيضا منزهة عن الملاحظات والتقلبات التى تعيشها.. يتساءل البعض رغم إيمانه العميق بأهميتها وما قامت به من جهد جبار خلال السنوات الأخيرة منذ الصرخة الاولى التى دوت من تونس إلى كل هذا الوطن الخارج عن خارطة التاريخ!
فكل المتتبع لها، أى للجمعيات غير الحكومية لابد وأن يلاحظ بشديد من المحبة حتما والوقوف مساندة لها بأنها الأخرى بحاجة إلى ثورة تشبه ثورة الشعوب على الأنظمة.. فلا يمكن لأى مراقب ألا يلاحظ ما يبدو أنه شكل من أشكال التخبط.. فالتخبط الذى أصبح سيد الموقف على الصعيد الرسمى وهو حتما ليس مرضا عربيا فقط بل هو أصاب الأمم المتقدمة. الملفت أن عدوى هذا المرض أصابت كذلك المجتمع المدنى العربى. ولم يعد الأمر مقتصرا على السلطات التى تصورت أن الحكم كالحب الأول إلى الأبد إلى الابد!
•••
صديقى اليونانى شديد الحساسية والسخرية من كل الأوضاع السياسية حتى الحزينة منها. كتب مقالته الأكاديمية المطولة منتقدا فيها هيئات المجتمع المدنى أو الجمعيات غير الحكومية فى العالم وقال إنها أصيبت بنفس داء السلطة كلها تبقى ضمن نطاق نفس المجموعة، كلها تهيمن عليها اسماء محددة، وكلها أو ــ للانصاف ــ معظمها لا تتمتع بالشفافية، ولا روح المحاسبة والنقد.
تذكرت ذلك وأنا أفتح بريدى الإلكترونى، رسائل التهنئة بالعام الجديد تنهال من كل جمعية وأخرى والمضحك كان أن إعلان إحدى الشخصيات عن جمعية جديدة تحمل اسم «حداثى» رنان وعلى مقاس الموضة السياسية العصرية بمعنى أن اسم الجمعية جامع لكل المطلوب دون أى توضيح عن الأهداف وكيفية تحقيق كل ذلك. الملفت أن مؤسسى هذه الجمعية كانوا قد أسسوا أخرى قبل سنوات عندما كانت الموضة مختلفة!!. فى مراجعة سريعة يكتشف المرء أن هناك ببعض الدول العربية جمعيات أهلية بأعداد هائلة لا تعرف كيف تعمل أو ماذا تعمل، كلها تحمل نفس المفاهيم السامية للعدالة والمحبة وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات والدفاع عن المرأة. كثير منها تحولت إلى جمعية لنفس الشلة وأخرى انفصلت عنها فراحت وبدأت مشروعا لجمعية جديدة.
الأكثر إثارة أن الكثير يغير أولوياته حسب مقاييس ما تطلبه أو تريده الهيئات والدول المانحة لا حسب أولويات البلد وما هو بحاجة له، حتى يخيل للمرء أحيانا أن بعض هذه الجمعيات والقائمين عليها كالهيئات المانحة يعيشون فى كوكب آخر وليسوا معنا على هذه الأرض الثكلى بالمصائب اليومية والكوارث المتتالية.
•••
كل ذلك لا يعنى أن هيئات المجتمع المدنى كلها مصابة بهذا الداء ولكنه يعد دعوة ومع بداية العام أن تقوم نفس تلك الجمعيات بمراجعة شاملة لها، ولما قامت به وألا تتحول إلى مؤسسة أسرية أو حزبية أو حتى تتقوقع على نفسها، وتتصور أنه يكفيها فخرا أنها تحمل أهدافا سامية فى ديباجتها وكثيرا من الحديث عن الديمقراطية والحقوق والحريات والحفلات مع الهيئات المانحة، والتواصل معها والسفر الكثير إلى مدن وقرى لم يكن يهيئ لهؤلاء زيارتها لولا جمعياتهم هذه!
كاتبة من البحرين