قَبضُ الأرواح - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:35 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قَبضُ الأرواح

نشر فى : الجمعة 5 يناير 2018 - 8:55 م | آخر تحديث : الجمعة 5 يناير 2018 - 8:55 م
في عصور مُظلمة، كان الإعدامُ عقوبةً مألوفة، طُرق تنفيذها وأدواتها هي الأكثر بشاعة وإيلامًا؛ بدءًا مِن تمزيق الجسد عبر تقييد أطرافه الأربعة لأحصنة تعدو في اتجاهات مُتعاكسة، مرورًا بإشعال النيران في الضحية حتى تستحيل رمادًا، وصولًا إلى الصلب والرفع على الخازوق. في عصور مظلمة؛ كان الإعدامُ عقوبةً واسعة الانتشار، تطال مَن أخطأ ومَن لم يخطئ، لا تميز بين مَن ارتكب جُرمًا، ومَن قدَّم مَعرفة وعلمًا، ومَن لا ذنب له ولا جريرة سوى سوء حظٍ وقلّة حيلة. لا تصلح هذه الكلمات كمقدمة جاذبة في الأحوال العادية؛ إلا أن يستدعيها واقعٌ إلى ذهن كاتبٍ، ويجعل بعضَ أركانها ومُلابساتها في حكم المُمكن.

***

مشاعر المُقبل على الإعدام لا يمكن تصورها، وليس لمَن لم يعشها أن يكتب عنها، هي بالتأكيد الأكثر ترويعًا، والأشد قتامةً، والأعظم يأسًا وعجزًا. طالعت بعض ما كتب ذوو شبان طالهم الحكمُ بالإعدام . تفصيلات الإبلاغ بالحكم، وشراء أمتار القماش الأحمر، ودهشة البائع، وأسف الترزي الذي تُطلَب منه حياكة البذلة؛ علامات النهاية التي تقترب فتسحق القلوبَ، وتدكُّ الحصونَ والدفاعات النفسية، مهما بلغت قوتها. 

***

الفزع الشديد عند الاقتياد إلى النهاية أمرٌ طبيعيّ ومتوقع، قد يدفع صاحبه إلى الانهيار التام؛ ومَن لا يهاب الموتَ، ويخشى الرحيلَ، وحول عنقه حبلٌ خشن، يكسر العظامَ ويقطع الجلدَ؟ مَن لا يهاب الموتَ، خاصة وإن ظلَّ قلبُه مُحتفِظًا -رغم الكرب- بشغفٍ للحياة، وأملٍ بعمر أطول؟ رغم قساوة وهمجية الدقائق التي ينفذ فيها الحكم، هناك مَن يظهر ثابتًا، لا يرجُف له جِفن ولا تهتز في رأسِه شعرة. بدا الرئيس العراقيّ السابق صدام حسين، في اللحظات التي سبقت إعدامه عام ألفين وستة، رابطَ الجأش، هادئًا، لا يهن ولا يجزع، بل تخرج مِن فمه الكلمات واضحة مُتماسِكة، تذهل مَن يتابعون الحدثَ الرهيبَ، فيتسائلون عاجزين عن التصديق؛ إن أُعطِيَ الرجل في محبسِه عقارًا، يورث السكينة أو البلادة، ويجعله مُتجلدًا، لا مُباليًا بالطقوس التي تجري مِن حوله، غيرَ عابئ بنهايته الوشيكة.

***

مِن أشهر لقطات الإعدام في الدراما العالمية، تلك اللقطة التي أرَّخت لشنق القائد الليبي العظيم عمر المختار. إلى الساحة وصل المختار الذي جسد شخصيته في الفيلم أنتوني كوين؛ مُنتَصب القامة، مفرود الظهر، عريض الأكتاف، وافر الثقة، يرتدي ثوبًا أبيض كلِحيته، فيما تعكس عيناه نظرة تحدٍ ورضاء. التحدي للغاصِب المُحتلّ، والرضاء بما سطر ورجاله الأبطال مِن أحرف النضال والمُقاومة على صفحاتِ التاريخ، أما الثقة؛ فبالمستقبل الآتي بالحرية دون ريب. ارتقت روحه وسقطت نظارته فالتقطها صبيٌّ صغير، يعد المُشاهدين بمواصلة الكفاح.

***

يدور جدلٌ قديمٌ حول حقِّ البشر في إزهاق أرواحِ آخرين، بصورة مُقنَّنة؛ جدلٌ يستند الطرفُ المؤيد فيه إلى أرضية دينية، تخفِّف مِن وقع الفكرة، وتهوِّن مِن هولها، مع هذا تبقى نسبةُ الشكِّ والخطأ قائمةً، وتبقى نماذج كثيرة هنا وهناك، في مُحيطنا الجغرافيّ وخارجه، لأشخاص أُخِذَت أرواحهم بمُقتضى القوانين والأحكام، ثم ظهرت أدلةٌ تشي بأنهم أبرياء. 

عشراتُ القصص والأفلام المُستقاة مِن وقائع حقيقية جرت على الأرض، بل وربما مئات، تُنبه جميعها إلى خطورة الاستخفاف بأمر لا عودة منه إذا قُضي، ولا رجوع فيه. ليس اقتناص الحيواتِ بفعلٍ هَيّن، وليست العدالةُ في الإسراع بالقتل؛ فالعاقبةُ جَسيمةٌ، ورائحةُ الدماء المُستباحة تبقى عالقة بالهواء الذي ننشقه. 

***

تُمَثّل واقعةُ إعدام خميس والبقري عام اثنين وخمسين، واحدةً مِن أبرز الحكايات التي تعكس ظلمًا فادحًا، لَحِق بشابين في مُقتَبل العمر، كلاهما عاملٌ بسيط لم يحلم سوى بالحدود الدنيا لحياةٍ كريمة. تظاهرا يطلبان حقوقًا طال إنكارها وإهدارها، فما كان مِن مَجلس قيادة الثورة إلا أن صَدَّق على إعدامِهما؛ ردعًا وتحذيرًا للباقيين، ولم يكُن فيهما مَن مارس عنفًا ولا إرهابًا. 

***

نسمع الآن عن أحكامَ إعدام بالجُملة، عشراتٌ يفقدون حيواتهم في بساطة ويسر؛ وكأن وجودَهم والعدمَ سواءٌ. خلال أسبوع واحد شُنِقَ تسعة عشر شخصًا، وفي نهاية العام الفائت، صدر تقريرٌ مُخيف، يعلن أن كمَّ الإعدامات التي تنفِّذها الحكومةُ في الآونة الأخيرة، قد فاق كل ما مضى.

***

أنظمةٌ كثيرة تستخدم الإعدامَ كرسالةِ ترويع: ”لا تقترب مِن المَحظورات وإلا فقدت حياتك.. لا ترفع صوتك وإلا أسكتناك إلى الأبد.. لا تقف ولا تقعد ولا تصرخ ولا تهمس.. سِر في الركب صاغرًا تكُن مِن الناجيين“. الحقُّ أن النجاةَ صارت مَطلبًا عامًا، لكن حياةً يظلّلها الخوفُ وتصبغها المذَلةُ والمهانةَ، هي بمنزلة إعدامٍ معنويّ وانكسارٍ عميق. مضى عامٌ ثقيل؛ أخذَ في يده مَن أخذَ ورحل، ترك ثكالى ومكلومين، دَقَّ في الصدور نِصالًا، وحفر في جسدِ الوطن قروحًا وأخاديد.

 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات