الموجة الأولى
١٨ يومًا
الجمعة ٢٨ يناير، العاشرة مساء
دبابات أربع على كورنيش ماسبيرو تسد الطريق أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون، والصديق الذى يصطحبنى يوزع أصابع العسلية على الجنود فى الدبابات وعلى الثوار فى الشارع. يقول: ليمدهم بالطاقة.
فى الأسابيع المقبلة سوف أفهم لماذا تتجه الثورات والانقلابات لتسيطر فى التو على أجهزة الإذاعة والتليفزيون. ثورتنا أمسكت بمياديننا الرئيسية ثم أخذت تتعامل مع مقار أجهزة النظام الأكثر بغضا عند الناس: المؤسسة الأمنية والحزب الوطنى الديمقراطى، وفى اليوم التالى حين التفتنا إلى ماسبيرو كانت اللحظة تأخرت والمحاولة ستواجه ليس بالشرطة أو بالأمن المركزى وإنما بالقوات المسلحة، بالجيش.
فى السادسة مساء أعلن حسنى مبارك حظر التجول ولم يهتم أحد. فى السابعة مساء، ومعركة التحرير دائرة، تصاعد صياح فرح: «الجيش نزل! الجيش نزل!» رأينا سيارة مفتوحة تقل أربعة ضباط تصل إلى الكورنيش عند كوبرى قصر النيل، ولمحنا البيريهات الحمراء للبوليس الحربى قبل أن تحيط بهم الجموع الصاخبة، المرحبة، الموَرِّطة.
الآن، فى العاشرة، نَمُرّ بمبنى ماسبيرو ثم بفندق هيلتون رمسيس المظلم. بعد خمسة أيام سوف يحبس النظام المراسلين الأجانب فى هذا الفندق بينما يستدعى مجموعات جديدة من حلفائه لتقف ضد الثورة وقفة بائسة ستُعرف بـ«معركة الجمل». الليلة نرى أمامنا سحابة ضخمة من الدخان الأسود تصعد إلى السماء: أشعلت الثورة النار فى مبنى الحزب الوطنى الديمقراطى. تتراقص النيران فى نوافذ المقر الرئيسى للحزب ونوافذ المجالس القومية المتخصصة لصاحبتها سوزان مبارك. على كوبرى قصر النيل أرى مئات الفلاشات تومض من كاميرات الهواتف المحمولة. أما حول المتحف المصرى المجاور فقد تشابكت أذرع الشباب وشكلوا كردونا بشريا يحمون به المتحف. القناصة على سطح المتحف فوق رءوسهم، لكن الشباب لا يعرفون هذا ولا يتخيلونه. الليلة، الشباب الثائر يعرفون فقط أن هذا المتحف لهم، وأن عليهم حمايته، والحماية المتاحة الليلة هى حماية القوات المسلحة، فالشباب لن يتحركوا من حول المتحف المصرى حتى يسلموه رسميا للجيش. طلبوا الجيش وانتظروه وحين جاء العميد مع قواته لتسلم المبنى طلبوا منه إثبات هويته، وأثبتها وتسلم.
كنت قد ذهبت من التحرير إلى بيت أخى لتوصيل بناته ولأكتب المقال المطلوب منى وأرسله للصحيفة، وعرفت من خالتى، الدكتورة ليلى موسى (لولى)، أن منى وبعض أصدقائها مروا على بيت أختى وأخذوا بعض الملابس والأغطية وقالوا إنهم سوف يبقون فى بيت أهل أحدهم حيث نجحوا فى توصيل خط إلى الإنترنت. منى عندها 24 سنة، طوال فترة الثورة سوف تركض بين التحرير ومعملها فى جامعة القاهرة (حيث تحاول الانتهاء من الماجستير) وذلك الموقع السرى حيث شكلت تلك المجموعة من الأصدقاء العصب المركزى فى مجهود الاتصال الذى مكن الثورة من أن تظل على صلة مع نفسها ومع العالم. انتهيت من المقال ووجدت سبيلا لإرساله للصحيفة وعدت إلى البيت فأخبرتنى لولى أن منى اتصلت على الخط الأرضى لتقول إن هناك جامعا صغيرا فى التحرير يستقبل الجرحى وأن على كل من يستطيع المساعدة التوجه إلى هناك.
يصر من معى على ألا نحاول المرور من التحرير فننحرف يسارا إلى شارع محمود بسيونى ثم نعبر طلعت حرب إلى البستان وهنا يضربنى الإحساس بأننى فى فيلم سينمائى، أحد تلك الأفلام التى تصور مدينة فى وقت الكارثة: تتعرف على الملامح الأليفة للمدينة ــ وهى فى العادة نيويورك ــ تتعرف عليها بصعوبة واندهاش عبر غلالة من الدمار الذى سببه الطوفان/الإعصار/الدمار النووى. الشوارع موجودة والمبانى فى أماكنها لكنها غريبة الهيئة مظلمة مهجورة والمحال مغلقة والقمامة تتطاير والأرض منثورة بالطوب والحجارة، أعمدة النور مطفأة ولا ترى شرطيا واحدا فى الطريق: لا شرطة مرور ولا حراسة على البنوك ولا دوريات. لا أحد.
فى أحياء وشوارع عبر البلاد، فى «جمعة الغضب» هذا، سيقتل رجال النظام مئات من شباب مصر: الأمن يدهس الثوار بالسيارات، والقناصة يضربونهم بالرصاص من أسطح هيلتون رمسيس والجامعة الأمريكية والمتحف المصرى ووزارة الداخلية، والجنود يطلقون النار عليهم من الطبنجات والبنادق والآلى، والبلطجية يحرقونهم بالمولوتوف ويبطحونهم بالطوب والرخام والسيراميك. قبل انتهاء الليلة سينهار بعض الجنود بكاء وسيطيب الثوار خاطرهم. وبسبب الليلة سيقضى آباء وأمهات وأخوات وزوجات الشهور المقبلة جريحوا الأفئدة يبحثون ويكتشفون ويحاولون إثبات كيف قُتِل أحباؤهم. سيقف معهم أطباء ومحامون وإعلاميون وحقوقيون يدافعون عنهم ويشهدون لهم، وستستمر الداخلية ــ حتى كتابة هذه السطور ــ فى إنكار مسئوليتها عما جرى.
الآن، فى قلب مدينتنا المتآكل المظلم، نجد أنفسنا فى ميدان باب اللوق، ولأن اتصالاتنا مقطوعة فنحن لا نعرف أن إلى يسارنا، وعلى بعد ثلاثة شوارع فقط، الشباب قد بدأوا فى مهاجمة عدوهم الكبير: الداخلية. بأيديهم العارية، وبما يبتكرونه من أدوات، وبغضب السنين الطويلة، يهاجمونها فى قلعتها الحصينة فى لاظوغلى.
فى عام 2000، حين بدأ الحشد لمساندة الإنتفاضة الفلسطينية دخل لاظوغلى عالمى: لاظوغلى هو الاختفاء القسرى والتعذيب، لاظوغلى هو الداخلية ومقر مباحث أمن الدولة، ولاظوغلى أيضا هو مكتب الطبيب الشرعى الذى يغطى على جرائم الداخلية ومباحث أمن الدولة، والآن، اليوم، ونحن على بعد ثلاثة شوارع فى باب اللوق ولا نعلم، يهاجم الثوار الشباب لاظوغلي، والمؤسسة الأمنية ــ وهى على وشك فقدان شوارع البلاد ــ لن تترك لاظوغلى. على سطح الوزارة خمسة قناصة، قناصة سينفى المسئولون وجودهم رغم صورهم المستقرة فى الفيديو.
فى باب اللوق يأتينا صوت عبر مكبر. لا أفسر الكلمات لكن الصوت يكررها ويكررها وأسمع فيه طابع النداء. الصوت يأتى من شارع التحرير، ربما يكون من المسجد الذى حدَّثَت به منى. أبدأ فى التوجه إليه. الطريق مظلم، إلى يسارى أرصد بتلقائية محل عصير الخروب المفضل لدىّ ــ مغلق بالطبع. الصوت يبدو أن مصدره ميكروفون فى شارع الأمير قدادار. الصوت يصيح ويرجو: « ــ هذا بيت الله، هذا بيت الله ومستشفى، هناك جرحى هنا، هناك جرحى وأطباء يساعدونهم، لا تهاجموا هذا البيت، إخوانكم وأخواتكم هنا، هذا بيت الله....».
سهل جدا ألا ترى مدخل المسجد. إحدى الصفات المعمارية الساحرة لوسط البلد هى الممرات التى تجرى بين أو خلال العمارات. أحيانا تكون الممرات مسقوفة، تمشى فيها فتمر من شارع إلى شارع، وبعض الممرات الواسعة بها محال كالأسواق الصغيرة. أما هذا فمدخل ضيق لممر يربط بين شارع الأمير قدادار وميدان التحرير.
لم أكن أعلم بوجوده أصلا، والآن أتبينه فقط بسبب تجمع الناس والسيارات خارجه والصوت المناشد فى الميكروفون: «هذا بيت الله ومستشفى ــ» طوب وحجارة ودخان والشارع خالى إلا ممن تجمعوا أمام المدخل المتوارى وراء لافتة كبيرة تعلن عن هواتف المحمول.
أنسلت من وراء اللافتة فأجدنى فى مساحة تموج بالحركة، شباب يأتى وشباب يذهب فى مساحة عرضها ربما ثمانية أمتار وطولها عشرين مترا تصب فى نهايتها داخل حوش العمارات الضخمة الواقعة فى الجانب الشرقى من ميدان التحرير. على مستوى الخصر يجرى إلى يسارى درابزين، حاجز منخفض بطول الممر. وراء الدرابزين هناك آيات قرآنية معلقة على الحائط حديث الطلاء، وقبلة فى الجدار وحُصر مفروشة فى صفوف على الأرض وعلى هذه الحصر يرقد شباب متسربلون بدمائهم وشباب آخرون يدخلون ركضا من الميدان يحملون شبابا يظهر بياض عيونهم وشبابا يقطر دما ينزلونهم بحرص إلى الحصير وإلى جانب الجدران أرى أجسادا كثيرة ممددة تغطيها البطانيات الداكنة ثم أرى نورا أبيض فى صدر المكان يأتى من جسم صغير يجثو على ركبتيه وينحنى يداوى صدرا جريحا عاريا لشاب راقد فى الأرض، الوجه المضىء يشع اهتماما وجدية ورحمة، يشدنى فلا أستطيع أن أحَوِّل عينَىّ وأقف أرقبه إلى أن ينتهى ويرفع رأسه ويقف فأرى أنها سيدة ثم أدرك أنها «منى مينا»، إحدى قيادات «أطباء بلا حقوق» وصديقة ليلى أختى، وأم سلمى سعيد، إحدى ناشطات الثورة البارزات. أتجه إليها فيعترض طريقى شاب يضع رأسه فى وجهى: «شوفى دى، شوفى دى بسرعة ــ » أقول: «صحافة مش دكتورة ـ» يستمر: «البلية موجودة. البلية موجودة. شايفاها؟ تقدرى تطلعيها واللا نسيبها؟ لازم ارجع للشباب ــ » فالشباب الآن يهاجمون الداخلية. تحكى لى الدكتورة منى عن اثنين منهم: «من أسبوعين كانوا خايفين يبلغوا ان مديرهم مستقصدهم. دلوقتى اتفرَّجى، شوفى الشجاعة واخداهم فين.
اتفرج. شباب جرحى فى كل مكان، وشباب وشابات يعنون بهم. الأدوية ومستلزمات الإسعاف فى أكوام منظمة بجوار الجدران. يروننى أدون فيأتون ليحكوا. أكتب بسرعة رسالتهم الخطيرة العاجلة: «بيستعملوا الرصاص الحى، بيستعملوا الآلى، بصّى، الفوارغ أهِه، صنع فى الولايات المتحدة، بصّى، بصّى، رجليه مش شغالة، اتنين ماتوا، ماحدش عايز يروح المستشفى عشان بيبلغوا عنهم وبيجوا ياخدوهم، إصابات عيون، إصابات راس، بيضربوا فى مقتل ـ» ويأتى الغاز مرة أخرى ويعلو النداء فى المكبر زاعقا غير مصدق، غاضب: «يا جنود مصر! يا شرطة مصر! إخوانكم وأخواتكم فى حماية هذا البيت...» يحاول الشباب نقل المصابين إلى الخارج، إلى الهواء. يعطينى أحدهم قناعا واقيا ويعطينى آخر إثنين من الفوارغ سيرقدوا على رف فى مكتبتي: «ده اللى بناخده من المعونة الأمريكية! دى المعونة اللى ماسكينها علينا!» بعد فترة تخف حدة الغاز.
شباب يحملون جندى أمن مركزى منهار، يعالجونه ويفرغون سلاحه قبل أن يطلقوا سراحه، يبكى فيربت رجل على كتفه. بعد أسابيع سنعرف أن هناك جنود تغيبوا عن الخدمة وعاشوا فى الميدان واعتصموا إلى أن فض الجيش الاعتصام. أكتب قائمة بالأشياء التى يحتاجها هذا المستشفى الميداني: بيتادين وقطن وشاش وبنج رش وخيط جراحى وإبر وجوانتيات واقية ومضادات للألم...