ليس أصعب من كتابة مرثية لصديق امتدت العلاقة معه لنحو ثلاثين عاما، والأصعب ان تكتب عنه كصديق مغبون عانى رغم موهبته التى شهد لها الجميع من عملية إقصاء واضحة، لم يكن من الصعب فهم أسباب استبعادها من المشهد، فالظلام يفرض قانونه والموت صار بجرعات كبيرة، مات المسرحى النبيل محمد أبوالسعود بعد أن اختار من يودعهم سره، وكنت من بين دائرة محدودة جدا اختار ان يحملها الامانة ويكشف امامها سر إصابته بالمرض الخبيث لكن الامانة وصلتنا متأخرين، وربما فى التوقيت المناسب تماما لليأس لم يكن باستطاعتنا تأجيل الموت، لكن بإمكاننا دائما منحه أسبابا أخرى للحياة.
فى واحدة من السوناتات يتحدث شكسبير عن الخلود ويقول: (ما دام هذا الشعر سيبقى، فستبقى لك فيه أنفاس اخرى) استرد ابوالسعود بسيرته النضرة التى تبادلها المشيعون كل أسباب الحياة، واستعدت عبر ذاكرتى السنوات الطوال التى عرفته فيها، قال لى فى اليوم الأول لصداقتنا أنه درس الفلسفة باختياره، فقد أراد الاحتفال بنعمة العقل والاستمرار فى فصل التمرد الذى لم يغادره إلى أن مات فاستحق أن يكون (المتمرد الابدى).
كنا بين نهاية الثمانينيات وأوائل سنوات التسعينيات داخل جامعة القاهرة وكانت حتى ذلك التوقيت صالحة لأشياء كثيرة، وكان الاستماع لدروس الدكتور حسن حنفى طقسا يليق بالساعين إلى ما هو أبعد من الوظيفة، لم يتقبل أبوالسعود فى اللقاء الاول سخريتى من تحولات استاذه ودافع عن الاسطورة التى كان يمثلها كحامل للواء العقل، ومثله أيضا شغلته افكار إسبينوزا، وبينما كنا غارقين فى النقاش حول ماركس وهيجل كان هو قد مال بإرادته لمقولات علم الجمال واعطى نفسه لها تماما، أحب اميرة حلمى مطر وسعيد توفيق وأدرك اقترابه من شوبنهاورو جادامر، فالفنان النائم داخله لم يكن شغوفا بالنظريات، بل كان ساعيا إلى صناعة الجمال.
لم يكن صعبا على مجموعتنا الكبيرة داخل الكلية وكانت كلها من الموهوبين أن تستوعب تعطشه لمعرفة متواصلة لا تنقطع، وان تستوعب كذلك احتياجه للكثير من الأمان ليعبر عما يريد، غلف يتمه المبكر لغة تعبيره بالكثير من الخجل والتردد النبيل، وكان اذا اطمأن يتدفق واذا ارتبك يتعطل كان لديه دوما الكثير ليفعله أو يتحدث فيه، يحمل الكثير من الاوراق والأفكار التى يكتبها ويحتاج لاختبارها، لا يتوقف ابدا عن رسم اسكتشات ومناظر حتى قبل أن يبدأ التفكير فى نفسه كمسرحى فذ اثبتت الايام قدرته على بناء كل ما كان يتخيله وحين اشتغلنا معه فى مسرحيته الأولى (العميان) التى قدمت فى المهرجان الأول للمسرح الحر ونالت أكثر من جائزة، لم نكن نريده ان يبقى وحيدا، وكان العمل معه قرارا بالتضامن مع موهبته ووسيلة اخرى من مواصلة الحوار والصداقة والتورط فى نقاش مفتوح لم يتوقف أبدا.
اختار للفرقة التى أسسها اسم (الشظية والاقتراب) أراده اسما يشابه الأسماء المجلوبة من قاموس يسارى مثل (الشرارة) وفِى نفس الوقت لم يحرم الاسم من نزعة الإشراق الصوفى وبعد التخرج كانت حمى المهرجان التجريبى قد بدأت وولد مسرح الهناجر معها ( ١٩٩٢) بعد مخاض طويل خاضته فرق المسرح الجامعى والمسرح الحر وعمل متواصل لاقرار صيغة المسرح المستقل الذى بدأته فرق كثيرة، ووجد لدى الدكتورة هدى وصفى الرحابة التى ساعدته على اطلاق افكاره وخاض معها نقاشات لا اول لها ولا اخر حول صيغ العمل التى ارادها، اختلف معها واتفق وظلت فى صورة الراعى الصالح، وعاملته بأمومة كاملة وبوعى الاستاذة الكبيرة التى لمست موهبته.
فى السنوات الاخيرة كان يتحدث بشغف عن سعد الله ونوس وعن النصوص التى كتبها قبل موته وقد اخرج منها الايام المخمورة وكان يراها اكثر شاعرية من نصوص ونوس الاولى ولم اكن اعرفه انه سيلتقى معه فى نفس المصير مات أبوالسعود وهو فى رضا كامل عن الموت وغضب من الحياة، فقد ازال عن روحه ثقل المعارك التى خاصها مع ابناء المؤسسة الرسمية الذين أسعدهم إظلام المسرح، لأنهم ببساطة ضد انوار العقل لا احب النظر إلى ما كتبته هنا كمرثية وافضل تأمل مسيرته كمن يسعى وراء خيط من الضوء اسمه محمد ابوالسعود أودعه بجملة شاعرنا الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى (يا هواى عليك يا محمد).