بعد انقضاءِ شهرينِ فقط؛ انخلع بابُ الفُرن وتراجَعت ألسنةُ اللَّهبِ، ثم خَمَدت الشعلةُ الوسطى، وتبعتها عينٌ وراء أخرى. جاء العاملُ المُختص فأصلح العطبَ وبدَّل أجزاءً في الباب وأعاد الشعلاتِ المُطفأة للعمل، وطلب قبل أن يغادرَ رسمَ زيارةٍ مائتي جنيه، رغم أن البوتجاز لا يزال جديدًا، تغطي أعطالَه فترةُ الضمان. اعترضت ربةُ البيتِ بحسمٍ؛ فانصرف الرجلُ إلى حالِ سبيلِه؛ دون مُجادلة تُذكَر ودون غنيمة.
***
شكاوى مُتشابهة أسمعها مِن أصدقاءٍ وصديقاتٍ ومَعارف، تدور كلُّها حول أجهزةٍ أساسيةٍ لا يكاد مَنزلٌ يخلو منها. تتعطَّل الأجهزةُ بسرعةٍ مُدهشةٍ بعد شرائِها، بعضُها يتم إصلاحه والبعضُ الآخر يتحتَّم إبداله؛ لا فارق في المآلِ بين جهازٍ فاقدِ الهُوية مجهول المنشأ، وآخر يحملُ علامةً تجاريةً لها تاريخٌ طويلٌ في الأسواقِ، وسمعةٌ طيبةٌ بين المُستهلكين.
***
ليس مِن الصعبِ مَعرفة السرّ؛ فالمُنتجَات المُتاحة حاليًا بأسمائها اللامعة؛ قد انتقلت مصانعها مِن بلدان المَنشأ، وصار أغلبُها إن لم يكُن جميعُها واردَ الصين. الدولةُ العظمى التي تتوغل ببضائعِها واستثماراتِها هنا وهناك، والتي تتغوَّل وتنافِس على زعامةِ العالمِ اقتصاديًا؛ ليست بعاجزةٍ عن تقديمِ صناعةٍ فاخرةٍ عاليةِ الجَودة، بل هي تملك مُستوياتٍ مُتفاوتةٍ مِن المُنتَج ذاته، وتستخدم خاماتٍ مُمتازة أو رديئة بحَسب المَطلوب؛ توفر للبلدان التي تحتاج إلى البضائعِ الرخيصةِ فرزًا ثالثًا أو عاشرًا؛ وتختَصُّ البلدانَ الغنية التي تضع مُواصفات لا يُمكن التنازل عنها بالفرزِ الأولِ وبخطوطِ إنتاجٍ مُمَيزة. المُنتَج السيءُ لا يُقبَل في الأسواقِ الأوروبية، ولا حتى في بعضِ الأسواقِ العربية؛ فمَردوده على المدى الطويلِ سلبيّ، لكنه يجد في بعض الأسواق صدورًا رحبةً تستهدف المدى القصير، وأعينَ لا تنظر سوى تحت الأقدام.
***
تذكرت مع تعاقُب الحكايات حول الأجهزةِ التالفة، موقفًا سردته صديقةٌ، عن مُهندس شاب جاء لإصلاحِ عيبٍ طفيف أصاب غسالةَ الملابس التي بلغت مِن العمر ثلاثين عامًا. سألته الصديقةُ بعدما انتهى مِن أداءِ مُهمته؛ إن كان مِن الأوفقِ أن تبيعَ الغسالةَ وتُكمِل مبلغًا فوق ثمنها لتشتري واحدةً جديدة. توسَّل الفنيُّ إليها ألا تفعل. قال إن جديدَ هذه الغسالة في السوقِ رديءٌ، أو على أقل تقدير؛ ليس في جودةِ القديمِ ولا حتى في نصفِ جودته، فمصدره الصين، والبلد الأم كفَّ عن التصنيع في مُنشآته وعلى أراضيه.
***
تكرر الموقفُ مع بعضِ الأقرباء؛ فالثلاجةُ العتيقة، الثقيلةُ بما لا يُقارَن بزميلاتها الأحدث عمرًا، أعلنت هي الأخرى جدارتَها بالبقاء. كان العزمُ قد انعقد على التخلُّص منها والاكتفاء بواحدة أصغر حجمًا بعد أن تراجعت رويدًا قدرتها على التبريد. قطعةُ غيارٍ تافهة كانت رابضةً في مخازن الشركةِ أعادتها لسيرتِها الأولى وكأنها لم تفسد. تبرَّع فنيّ الصيانة بالنصيحة التي لم تعد مُفاجئة بأيةِ حال: التفريطُ في الثلاجةِ جنونٌ؛ الأحدثُ مِن هذا الطراز أٌقلَّ تحمُّلًا وأقصر عمرًا، لن تجدوا مثلها.
***
يقول المأثورُ الشهير: "القديمة تِحلى ولو كانت وَحلة". المعنى فيه قدرٌ وافر مِن العاطفة تجاه ما أرهقَه الزمن، وفيه أيضًا بلاغةٌ رقيقةٌ تحملُ الحنينَ، وتتجاوز عن مَواطِن العِلَّة وتقبلُ بها. مع التغيُّرات الهائلة في الأحوالِ والظروف، حملَ المأثور قدرًا مُضافًا من الموضوعية؛ فالنصيحة التي تلقيتها بنفسي وتلقاها كثيرون مِن دائرةِ مَعارفي؛ تحوَّلت إلى قاعدةٍ تُثبت نجاحًا متجددًا: لا تتخلَّص مِن القديمِ ما دام فيه رَمق؛ مُحاولةُ إحيائِه واجبةٌ، إصلاحه أجدى مِن إبدالِه، واستعادته مَكسب.
***
الأمثلةُ لا حصر لها، والقياسُ على نموذجِ الأجهزةِ المنزليةِ وارد. الأكوابُ التي تحتفظ بحرارة السوائلِ داخلها؛ ما أتى منها عبر حدودٍ أوروبية، يبقى المَشروبُ فيه مُلتهبًا لساعاتٍ طِوال، أما ما صُنِع خصيصًا لنا وجاء رأسًا إلى أسواقِنا؛ فتكتفي السوائلُ الساخنةُ داخله بدقائقَ مِن الدفءِ، تصبح بعدها فاترةً وربما أميلَ للبرودة. على دينِها الأحذيةُ الكاوتشوك ذات الأسماء الراسخة في عالم الرياضة، والتي ارتفعت أثمانُها فوق الخيال؛ تتمزقُ وتنهار ما اقتُنِيَت محليًا؛ ولو مِن توكيلاتِها المُتخصّصة، أما إذا جاء الحذاءُ من سوقٍ أوروبية؛ فإنه يصمد لأعوامٍ دون أن يشكو أو يُصاب. الاسمُ واحد والعلامةُ التجاريةُ واحدةٌ؛ الزبائنُ المُستهدَفون هم فقط المختلفون، والضوابطُ الحاكمةُ لعمليةِ الاستيراد تتسع وتضيق تبعًا لما ترتضيه الحكوماتُ وتقبلُ به الشعوب.
***
"مَن فات قديمه تاه"، والتوهان هنا حقيقيٌّ ملموس؛ فالندم الذي يحلُّ ما بعد التخلُّص من القديم ثم اكتشاف قيمته؛ لا يجدي نفعًا، والعثور على مُنتَج جديد يمكن التعويلُ عليه ووضع الثقةَ فيه؛ بات مِن الصعوبة بمكان.