للذين يؤمنون ــ مثلى ــ بأن صراعنا مع إسرائيل هو صراع «وجود لا حدود»، وأن الحل الوحيد للصراع العربى الإسرائيلى هو القضاء على الصهيونية، وبناء دولة ديمقراطية تجمع الفلسطينيين واليهود فى ظل نظام إقليمى عربى جديد، فقد جاءت حرب غزة الراهنة لتؤكد أمرين أساسيين، أولهما له طابع عسكرى يتمثل فى أن المقاومة الفلسطينية ببطولاتها الأسطورية، أكدت للمرة الثالثة بعد حرب أكتوبر وحروب حزب الله ضد إسرائيل، سقوط نظرية الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر.. وثانيهما له طابع استراتيجى ــ إن صح التعبير ــ يؤكد أن هذه البطولات العسكرية العربية يتم سرقتها فى وضح النهار لصالح أجندات حزبية ضيقة، تعادى أحلام شعوب المنطقة فى الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية!
ففى حرب أكتوبر، قام الجيش المصرى بمعجزة عسكرية بكل المقاييس، وحقق جنوده بطولات ملحمية أسقطت هيبة الجيش الإسرائيلى فى الوحل، إلا أن هذه الانتصارات تحولت إلى هزائم سياسية مروعة بانتهاج السادات الانفتاح السداح مداح، وقمع الحريات الحقيقية، وبرعاية الفساد والمفسدين، وباتساع الفجوات بين الأغنياء والفقراء.
أما حزب الله، فقد تحولت انتصاراته العسكرية على إسرائيل فى جنوب لبنان، إلى انتهاج سياسات طائفية أججت الصراع بين السنة والشيعة، برفع السيد حسن نصر الله لشعارات تتماهى مع الأيديولوجيا الإيرانية، وعلى رأسها ولاية الفقيه، التى جعلت الحزب وكأنه «دمية» فى يد ملالى طهران.
وحتى على المستوى العالمى، تحولت ثورة 1917 السوفييتية بانتصاراتها العسكرية الفذة على الجيش الإمبراطورى الروسى، إلى «دولة عمالية مشوهة بيروقراطيا» خلال حكم جوزيف ستالين، لتتحول الدولة الاشتراكية الأولى فى العالم على يديه، إلى نموذج صارخ للديكتاتورية والقمع البوليسى. وفى الحربين العالميتين الأولى والثانية تصارعت الدول الأوروبية فى حروب طاحنة راح ضحيتها ملايين القتلى والمصابين، فى سباقها المحموم على احتلال المستعمرات فى أفريقيا وآسيا ونهب ثرواتها، تحت شعارات زائفة تتحدث أحيانا عن الدفاع عن القوميات الأوروبية، وأحيانا أخرى عن نشر الحضارة!
حماس مشعل وهنية ــ لا القسام ــ لم تخرج عن هذا السياق، فقد تاجرت بدماء مئات القتلى وآلاف الجرحى من المدنيين الأبرياء من ضحايا الهمجية الإسرائيلية، لتضمن بقاءها فى حكم غزة، بعد أن ارتضت أن تصبح مخلب قط فى يد الخليفة رجب طيب أردوغان الذى يخطط لعودة الإمبراطورية العثمانية للحياة مرة أخرى، فى نفس الوقت الذى ارتبطت فيه حماس بعلاقات مريبة مع قطر التى تدعم الحركة، فى نفس الوقت الذى ترتبط فيه الدوحة بعلاقات استراتيجية متميزة مع إسرائيل وتتبادل مع مسؤليها الزيارات والأحضان الساخنة، وتستضيف أكبر القواعد العسكرية الأمريكية وما خفى كان أعظم، ثم تعادى شعب مصر، وتخطط لهدم مؤسساته وجيشه.
لو كان قادة حماس مخلصين فعلا لقضية الشعب الفلسطينى، لإختاروا نموذجا ديمقراطيا بديلا للقمع فى حكم غزة، ولإرتبطوا بمشاريع التحرر العربية الباحثة عن الحرية والعدالة الإجتماعية، لكن هؤلاء القادة فضلوا ــ كما فعل آباؤهم المؤسسون من مافيا الإخوان فى مصر ــ أن يخونوا قضية الثورة الفلسطينية، وأن يسرقوا بطولات فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها كتائب عز الدين القسام نفسها، لتصب فى صالح الأجندة التركية والإسرائيلية عبر الوكيل القطرى، وهم يتصورون أن مصيرهم سيكون مختلفا عن مصير السادات أو ستالين أو هتلر.