جاءت وثيقة اتفاق بعض الأحزاب المصرية والتى ضمت ثلاثة عشر حزبا من التيارين الدينى والليبرالى مع رئيس أركان القوات المسلحة لتثير عاصفة من السخط فى الأوساط السياسية.
استغربت من ردود الأفعال المصدومة من موقف هذه الأحزاب وموافقتها على هذه الوثيقة المخلة. فالمراقب لأداء معظم هذه الأحزاب بعد 25 يناير له أن يتوقع مثل هذا الاتفاق ــ بغض النظر عن تفاصيله. هذا الأداء الذى يمكن إجماله فى ثلاث ملاحظات تجعل مثل هذه التنازلات واردة فى المستقبل، حتى وإن بدأت بعض هذه الأحزاب التراجع عن هذا الاتفاق تحديدا.
●●●
أول ملاحظة، أن هذه الأحزاب تتعامل مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة وكأنه الطرف الوحيد فى المعادلة السياسية. فمطالبها توجه إليه، وسبلها سواء كانت مظاهرة أو اجتماع منتهاها توجيه «رسائل» له، وكأن هذا الشعب الذين يطمحون إلى تمثيله خارج المعادلة. فبدلا من توجيه جهودهم لبناء رأى عام حول مطالبهم يكتفون بمحاولة استجداء المجلس أو إقناعه بالإستجابة. والحجة هنا أن المجلس هو السلطة المخول لها إصدار القوانين والتشريعات التى تحدد قواعد اللعبة، أو أنهم مضطرون للتنازل حتى يكون هناك انتقال لسلطة مدنية كما فعل السياسيون فى دول أمريكا اللاتينية إبان التحول الديمقراطى.
وتتناسى هذه الأحزاب الفارق الكبير بين دول أمريكا اللاتينية التى كان فيها الحكم العسكرى نتيجة انقلابات، والحالة المصرية التى أتى فيها المجلس العسكرى لإدارة فترة انتقالية على إثر ثورة شعبية. هذا الفرق فى منتهى الأهمية ليس فقط لأنه يقلص من ضرورة وحجم التنازلات المفروضة على القوى السياسية، ولكن لأنه يجعل من الجماهير الطرف الأهم والأقوى فى المعادلة السياسية. فهى من سمحت للمجلس ولهذه الأحزاب بإمكانية الوجود فى صدارة المشهد أصلا (فمن الأولى توجيه الرسائل ومحاولات الإقناع لها).
الملاحظة الثانية، أن هذا الاتفاق ليس أول تنازل تقدمه هذه الأحزاب. فالبداية تخليها عن مطلب إنشاء الأحزاب بالإخطار ــ وهو مطلب سابق على الثورة ــ وإذعانها لقانون الأحزاب المفروض من سلطة غير منتخبة. والقاعدة العلمية تقول إن أداء الأحزاب مرتبط بنشأتها، فنظام مبارك مثلا استطاع تدجين المعارضة بسهولة لأنها كانت صنيعة نظام السادات وبالتالى سهل هذا عملية إستمالتها. ومرورا بعدم إيتائها لأى رد فعل حاسم ضد إحالة المدنيين للمحاكم العسكرية أو قانون تجريم الإضرابات أو حتى قانون الانتخابات، فليس من المستغرب عليها الإذعان.
ساهم فى هذا أن معظم هذه الأحزاب حتى التى تدعى خروجها من «رحم الثورة» هى فى الحقيقة إعادة تشكيل لنفس النخبة السياسية ما قبل 25 يناير. فهى إما كانت موجودة كأحزاب وبنفس قيادتها (مثل الوفد والجبهة)، أو انبثقت عن جماعات كانت قابلة بالنظام (الحرية والعدالة وحزب النور)، أو تشكلت حول رموز ومستفيدين من النظام السابق سواء بشكل علنى (مثل المصريين الأحرار) أو بشكل أقل وضوحا. إذا، نحن أمام نفس النخبة التى لم تكن يوما خارج النظام حتى وإن كان بعضها على أطرافه، وكانت أقصى أمانيها «إصلاح» النظام، وليس إسقاطه.
الملاحظة الثالثة ــ وهى نتيجة ما سبق ــ هى افتقار هذه الأحزاب للخيال السياسى. فهى فى أدائها الهزيل محصورة بين ثنائية الضغط والتفاوض ولا ترى خيار البناء من أسفل كبديل. وحتى فى إطار هذه الثنائية لا تعرف هذه الأحزاب من أدوات الضغط غير مظاهرات ميدان التحرير ولا تعرف من آليات التفاوض غير الاجتماع بالمجلس العسكرى حين يطلبهم وعلى أجندته. ولكن أن يشمل الضغط النضال القانونى من أجل منع قيادات الحزب الوطنى من العمل السياسى (بدلا من استجداء المجلس لإصدار قرار بهذا الشأن)، فلا يتبادر إلى أذهانهم. أو أن يطرحوا قانونا بديلا للانتخابات أو تقسيم الدوائر ويجمعوا عليه ملايين التوقيعات (حملة شعبية)، فهذا عناء لا قبل لهم به. وحتى فى فن التفاوض ألم يتبادر إلى أذهان أى من الحاضرين بالاجتماع الأخير مع رئيس الأركان ــ وهو من دعا إليه ــ أن يدفع بتأجيل التوقيع على الاتفاق لحين مناقشة حزبه ــ حتى من باب إشعار المجلس أن هناك ترددا فى قبول التنازلات ليرفع سقف المعروض؟
●●●
إذا، فالاتفاق المنقوص هو نتيجة طبيعية واستمرار لنهج هذه الأحزاب فى الانبطاح، ولكنه مازال مدهشا من ناحية عدم محاولة هذه الأحزاب حفظ ماء الوجه. فنرى أن حزبى النور والحرية والعدالة اللذين صدعا رءوسنا بأن المبادئ الدستورية وضوابط اختيار الجمعية التأسيسية للدستور هى «التفاف على الإرادة الشعبية» وحشدوا أنصارهم لجمعة شق الصف فى 29 يوليو، وافقوا على هذا البند فى الاتفاق. فأى مبدئية ونضالية هذه التى تستكبر وتستقوى على شركاء الوطن وترضخ أمام سلطة الدبابات؟ ونرى الاحزاب الليبرالية والتى تقوم على تقديس الحريات توافق على «دراسة وقف العمل بقانون الطوارئ إلا فى بعض الجرائم» بدلا من أن تتمسك بضرورة إلغائه تماما. مع العلم بأن هذا البند هو نفس ما كان يطرحه مبارك، الذى كان يؤكد أن قانون الطوارئ لا يستخدم إلا ضد الإرهاب وفى مكافحة المخدرات، وكان «يدرس» وقف العمل به هو الآخر.
أما المضحك حقا فدفع هذه الأحزاب بأن الاتفاق على ما فيه من عيوب إنما هو مكسب يعجل بانتقال السلطة للمدنيين. وكأن وضع جدول زمنى ينتهى فى أحسن تقدير بداية عام 2013 هو إنجاز، فى حين أن عقدنا مع المجلس الأعلى ــ لإدارة البلاد ــ انتهى يوم 11 أغسطس 2011.