أنتلانتا» محطة مهمة فى تاريخ الحقوق المدنية فى الولايات المتحدة، رمزها الأساسى هو مارتن لوثر كينج. وهناك تقدير كبير فى أذهان الناس هناك للنضال المدنى السلمى لنيل الحقوق السياسية. فى جامعة «كينسو» فى «أنتلانتا» دعيت الأسبوع الماضى لإلقاء محاضرة عن «الثورة المصرية: حالها ومآلها».
فى الطريق حدثنى الدكتور إبراهيم الصاوى، وهو أكاديمى مصرى يرأس عددا من المبادرات فى الجامعة، من بينها مبادرة الشرق الأوسط، عن الاهتمام بما يُعرف بالربيع العربى، وتتبع الأحوال فى دول الشرق الأوسط: الحال والتقلبات. مما عزز حديثه الحضور الكبير، والذى ذكر لى أنه غير مسبوق، من أساتذة وباحثين وطلاب من مختلف التخصصات فى العلوم الاجتماعية، إلى حد أن هناك من لم يجد مكانا يجلس عليه فافترش الممرات فى القاعة.
العالم مشدوها لما يحدث فى مصر. هناك اهتمام ليس فقط إعلامى، ولكن أيضا دراسى وأكاديمى. تعددت الأسئلة بعضها تعلق بالمسار الاستيعابى للتحول الديمقراطى، ومآل العدالة الاجتماعية، وبعضها تناول جهاز الدولة هل معوقا أم دافعا للديمقراطية، وهناك من تحدث عن دور مصر ليس فقط فى المحيط العربى، ولكن فى القارة الأفريقية، وآخرون تساءلوا حول التباين بين مصر وسوريا؟
يذهلك مستوى وعى الطلاب قبل الاساتذة بما يحدث فى مصر. يتابعون الأحداث بدقة، ويعرفون ما يجرى، ويسعون لتحليل الأوضاع، وليس الاكتفاء بالانشغال بالأحداث. لم أكن متوقعا أن يصل الاهتمام بالشأن المصرى إلى هذا الحد، والذى يغنيك فى كثير من الأحيان عن الخوض فى التفاصيل. الشأن المصرى لم يعد محليا أو إقليميا، ولكنه صار محل اهتمام بحثى على الصعيد العالمى. فى مجلة «الديمقراطية» ــ الأمريكية ــ الشهيرة، والتى يرأس تحريرها «لارى دايموند» يتناول العدد الجديد (أكتوبر) ما يحدث فى دول الربيع العربى، من بينها مصر فى دراسة مطولة للباحث المتخصص فى الشئون المصرية «ناثل براون»، وسبق أن تناولت الأعداد السابقة من ذات المطبوعة المد والجزر فى التحول الديمقراطى فى المحيط العربى، الدول التى شهدت ثورات وتلك التى انخرطت فى إصلاحات. هذا مجرد نموذج للاهتمام الأكاديمى المتصاعد بما يجرى فى المنطقة العربية، وبالأخص فى مصر، وهو اهتمام لا يقف عند تطورات الأحداث، ولكن يقدم تحليلات معمقة.
هذا بعض، وليس كل، ما تفعله الدوائر الأكاديمية فى الخارج، أما الباحثون لدينا لم يعد لديهم القدرة، إلا فيما ندر، على تقديم تحليلات رصينة لما يجرى على أرض الواقع، ويغيب عنهم القدرة على استشراف مستقبل النظام السياسى فى مصر. الباحثون إما أصبحوا ساسة منحازين، أو منشغلين بالأحداث المتلاحقة دون نظرة تحليلية شاملة، أو جزءا من ماكينة الفضائيات، بما يحجب عنهم القدرة على البحث والتأمل.
الآخرون يدرسون واقعنا أفضل مما ندرسه نحن. وكثير من الدراسات والمقالات المتعمقة التى تتناول الحالة المصرية، وهى بالمئات، لا أتصور أن هناك باحثين مصريين كثرا يستطيعون تقديم مثيلاتها.
هذا هو حال الأكاديمية، الجامعة ومراكز الأبحاث فى الغرب، أما نحن فالجامعة تغرق كل يوم فى مستنقع العنف، وغياب التعليم، وترهل الأداء، وعدم القدرة على تقديم باحث أو دارس يمتلك أدوات البحث، ويستطيع أن ينجز شيئا.