خوفًا.. لا ندمًا ولا استحياء - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:55 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خوفًا.. لا ندمًا ولا استحياء

نشر فى : السبت 5 ديسمبر 2015 - 9:25 ص | آخر تحديث : السبت 5 ديسمبر 2015 - 9:25 ص

لا جديد فى وقائع القتل التى جرت الأيام القليلة الماضية داخل أقسام شرطة، موزعة على أنحاء الجمهورية؛ شرقا وغربا، شمالا وجنوبا. لا جديد فى تصريحات المسئولين التى تؤكد أن القتل تعذيبا هو فعل فردى استثنائى، لا يمثل قاعدة رغم التكرار. لا جديد أيضا فى أن يقوم مسئول رفيع مِن وزارة الداخلية بمُداخلة تلفزيونية على الهواء مُباشرة، ليوضح للناس أن القتلى لم يُعَذبوا، وإنما أصابهم الإعياء بعد أن أُلقى القبض عليهم، فسقطوا جميعا موتى؛ قدرٌ لا جُرم.

الجديد والعجيب هو تلك الوقفة التى قام بها ضباط وأمناء شرطة، وعلى رأسهم مدير أمن الأقصر، مُعلنين اعتذارهم لأهالى رجل مِن الضحايا. لم يكن الرجل بثرى مِن الأثرياء، ولا هو صاحب سلطة ونفوذ، أو وجيه مِن الوجهاء. سائق عادى، مواطن متوسط الحال ندر أن يحظى مثله باهتمام من المسئولين، مع ذلك وفى حين غضت الداخلية بصرها عن ضحايا آخرين، وأشاحت بوجهها بعيدا عن دمائهم، فقد انتفضت لمقتل الرجل الأسمر، وانطلق أفرادها يرفعون لافتات الأسف، ويقدمون واجب العزاء إلى عائلته.

ثمة فجوة شاسعة بين مَسلَك الشرطة تجاه أسرة طلعت شبيب، ومسلكها تجاه ضحايا شبين والمطرية وعديد الأقسام التى عُذِب فيها مواطنون حتى قضوا نحبهم، ولم ينل ذووهم أى حق، ولا أى شكل مِن أشكال الاعتذار. فجوة تشير بطبيعة الحال وكما نعرف ونفهم جيدا، إلى أن الشرطة لا تأسف على ضحايا التعذيب كما تدعى، ولا تستنكف ممارسات أفرادها الوحشية فى كل مكان وزمان، لكنها قد تنتقى فى بعض الأحيان مَن تترحم على موتهم، وتطلب الصفح عما اقترفته اتجاههم.

***

ما دفع الشرطة إلى الإسراع بالاعتذار ومحاولة تطييب الخواطر فى هذه الحال، ربما يكمُن فى معطيات الجغرافيا والتاريخ، وما ارتبط بهما مِن ثقافة وتقاليد على قدر وافر مِن الخصوصية. نعلم أن القتل يستدعى فى صعيد مصر الثأر، والثأر يُؤخَذ ولو بعد حين، وإلا ظل عارا فى جبين أصحابه. فى اتصال هاتفى ببرنامج تلفزيونى ذائع الصيت، وبعد أن سألها المذيع عن الحُكم الذى ترتضيه، قالت «أم أحمد» شقيقة الرجل القتيل: « القصاص». لم يفهم المذيع أو ربما ادعى عدم الفهم، وعاد يسألها عما تعنيه بالقصاص، عرض عليها سجن الجانى خمس سنوات، ثم زادها إلى عشر، فأجابت فى حسم: «لا ما يرضيناش.. القاتل يُقتل.. إعدام.. أخويا ما يكفيناش فيه عشرين واحد.. أصلا لولا ما مسكوه أربعة أو خمسة وفيه ناس اعترفت عليهم ما كانوا قدروا عليه، هو أصلاً شجاع وراجل مات راجل وعاش راجل.. أصلاً لما نضيف وشريف الضابط بيكلمه وضربه قلم، هو ضربه قلم وتف عليه»، قالت المرأة أنها ترتضى حكم القضاء فقط لو جاء مُنصِفا: «بس يكون حكم عادل.. مافيش قصاص هناخد قصاصنا بإيدينا واحنا صعايدة وماحدش يقدر علينا».

راحت المرأة ترفض بإصرار المساومات التى قادها المذيع كافة، وفى قوة وكبرياء قل أن يبديهما شخصٌ فى مواجهة سُلطة لا تتورع عن ارتكاب مزيدٍ مِن الجرائم، أنهت حديثها دون أن تهتز ودون أن تتغير نبرة صوتها، أو يظهر فيها ضعف أو تتلون ببادرة نواح: «القصاص وأنا باحلف لك يمين مَرَة صعيدية ما يمين راجل لازم القصاص دم أخونا ما يروحش هدر».

إذا جازت المقارنة بين خطاب «أم أحمد»، وخطاب الزوجة المكلومة التى قضى زوجها تعذيبا فى الاسماعيلية، والتى هددت بالانتحار ما لم تنل حقه، لظهر المشهد جليا واضحا، وأمكن تفسير رد الفعل المدهش الذى قامت به وزارة الداخلية. أطلقت المرأتان تهديداتهما؛ واحدة بأن تقتص مِن القاتل، والأخرى بأن تنتحر، وفارق شاسع ما بين التهديدين، الأول يُخيف، والثانى مُستطاب. هكذا اعتذرت الشرطة فى الحال الأولى خوفا لا ندما، وفزت واقفة ذعرا وتوجسا لا أسفا، وحملت كفنها الرمزى بغية اتقاء العواقب الوخيمة، لا خجلا مما اقترفت.

***

تظاهر أهالى الضحايا فى أماكن متعددة، لكن السلطة تعلم أن هناك مَن يستعصى عليها إسكاتهم، ومَن قد لا يقف غضبهم عند حدود، ومَن لا يحنون الرءوس وإن مارست ضدهم صنوفا مِن القمع. رفض مواطنو الجنوب قبول اعتذار الشرطة ووقفتها، ورفضوا قبول عزاء مدير الأمن ذاته، وقد نشرت الصحف أن الضابط الذى اتهم بتعذيب شبيب وقتله، نُقِلَ مِن مكان عمله مراعاة لشعور الأهالى، لكن سبب النقل يبدو عصيا على التصديق، فأكم بقى مُتهم بالتعذيب فى مَحل عمله، ومارس ضغوطه على مَن لم يمت من ضحاياه، أو على ذوى قتلاه، وأرغمهم على الخضوع لسلطانه. كذلك نشرت الصحف صدور تعليمات من وزارة الداخلية، بتقديم من تورطوا فى واقعة الأقصر إلى محاكمة عاجلة، لكن الداخلية لا تحمل اللافتات لكل ضحية تقتلها، ولا تتعهد فى كل مرة بتقديم الجانى للعقاب، لا تقف وتلين إلا للقوى، وإذا هى دعوة لأن يكشر المواطنون عن أنيابهم فى مواجهة بطشها.

أمام يمين امرأة صعيدية أصابها الضيم والجور، وقَرَ فى صدرها الغليل، واعتزمت تحقيق العدل ولو بيديها، تسقط ترهات العقد الاجتماعى الذى صار مهترئا مضعضعا، ومع شمس الجنوب الحارقة تتبخر هيبة الدولة المزعومة وتظهر سيوفها المشرعة فى وجوه الناس كما لو كانت مِن ورق. فى النهاية تبقى على الأرض دماء، وأظن أن بعضها لن يجف أبدا.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات