أثارت عودة ترامب وشعاره أمريكا أولا العديد من المخاوف فى اليابان، فتوجهات ترامب فى السياسة الخارجية التى تعتمد على إبرام الصفقات السياسية والاقتصادية، خاصة مع الخصوم مثل روسيا وكوريا الشمالية، وتقليص التزامات الولايات المتحدة فى الخارج، ونهجه فى الضغط على الحلفاء لزيادة إنفاقهم الدفاعى وتحمل مسئولية توفير أمنهم، تأتى فى وقت تشهد فيه اليابان تهديدات أمنية متزايدة، واقتصادا يعانى من مستويات مرتفعة من التضخم، فضلًا عن عدم استقرار سياسى داخلى. ومن ثم، فإن عودة ترامب تثير التساؤلات حول الشكل الذى ستكون عليه الشراكة بين الولايات المتحدة واليابان التى تعد حليفًا رئيسًا لواشنطن فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ.
• • •
فى هذا الإطار، يمكن التطرق إلى بعض التحديات الأمنية التى من المرجح أن تواجه اليابان فى ظل إدارة ترامب ، والتى تتمثل أبرزها فى تهديد التحالفات التى أُنشئت فى فترة ولاية بايدن بهدف تعزيز النظام القائم على القواعد فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ، وبناء القدرات فى مجالات مثل الأمن السيبرانى والبنية التحتية والتكنولوجيا، فضلًا عن مواجهة صعود الصين، وذلك مثل الحوار الأمنى الرباعى كواد (QUAD) الذى يجمع بين الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند، هذا إلى جانب التحالفات الصغيرة فى المنطقة مثل التحالف بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان، والتحالف بين الولايات المتحدة واليابان والفلبين، فضلًا عن التحالف بين الولايات المتحدة واليابان وأستراليا. ومن ثمَّ، فإن نهج ترامب الرافض للتعددية والتحالفات الدولية يثير المخاوف بشأن عرقلة قدرة تلك التحالفات على الوفاء بالتزاماتها، خاصة فى ظل حاجتها إلى قيادة أمريكية ملتزمة ومستقرة.
وفى مشهد دولى يزداد تعقيدا، تثير عودة ترامب المخاوف بشأن مدى التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن أمن اليابان، لا سيما فى ظل محاولات الصين تعزيز نفوذها فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ، وسيطرتها على جزر سينكاكو المتنازع عليها فى بحر الصين الشرقى، فضلا عن قيام كوريا الشمالية بتعزيز أنظمتها التسليحية وتعزيز علاقاتها مع روسيا، علمًا بأن هناك مخاوف بشأن قيام ترامب بإعادة إحياء علاقاته الشخصية مع رئيس كوريا الشمالية كيم جونج أون ، الأمر الذى يهدد بتراجع الاهتمام الأمريكى بإدارة التهديدات النووية التى تفرضها كوريا الشمالية فى المنطقة، وتهميش مصالح اليابان وكوريا الجنوبية، الأمر الذى قد يدفع فى الأخير طوكيو وسيول إلى التفكير فى امتلاك السلاح النووى كبديل عن المظلة النووية الأمنية التى تقدمها واشنطن.
ومن المتوقع أن تتعرض طوكيو إلى ضغوطات من قبل ترامب لمواصلة مسارها الحالى المتمثل فى زيادة الإنفاق الدفاعى وتعزيز قدراتها الدفاعية. وبالرغم من التزام طوكيو بزيادة الإنفاق الدفاعى استجابة لتزايد التهديدات الأمنية فى الإقليم، فإن ضعف الين قد قوض هذه الجهود. وعلاوة على هذا، توقعت التحليلات أن تدخل طوكيو فى مفاوضات صعبة مع ترامب بشأن تجديد بقاء القوات الأمريكية على أراضيها، علمًا بأن اليابان تستضيف حوالى 54 ألف جندى أمريكى، الأمر الذى قد يلزم طوكيو بتحمل المزيد من العبء المالى لاستضافة تلك القوات. وتتوقع التحليلات أن تحاول اليابان كسب ود ترامب من خلال شراء المزيد من المعدات العسكرية الأمريكية، الأمر الذى سيزيد من الأعباء على الاقتصاد اليابانى.
كما توقعت بعض التحليلات أن تضطر اليابان إلى مراجعة معاهداتها الأمنية مع الولايات المتحدة؛ بحيث تلتزم اليابان بالدفاع عن الولايات المتحدة فى حال تعرضت الأخيرة إلى هجوم، وذلك مثلما تلتزم الولايات المتحدة بالدفاع عن اليابان فى حال تعرضت أراضيها إلى هجوم، إذ إن ترامب قد أبدى ضيقه من عدم تحمل اليابان نصيبها من العبء الأمنى، وعدم وجود التزامات عليها لمساعدة الولايات المتحدة فى أى صراع مسلح على الأراضى الأمريكية أو أى أراض أخرى خارج حدود اليابان، علمًا بأن الحديث داخل أروقة واشنطن حول قيام اليابان باستغلال معاهدة الأمن للتركيز على تعزيز تقدمها الاقتصادى، فى الوقت الذى دخلت فيه الولايات المتحدة فى العديد من الحروب.
• • •
بالنسبة للتحديات الاقتصادية، فإن التنافس المحتمل بين ترامب والصين يهدد العلاقات الاقتصادية بين طوكيو وبكين؛ إذ إن اليابان تعد ثانى أكبر شريك تجارى بالنسبة للصين بعد الولايات المتحدة، بينما تعد الصين أكبر شريك اقتصادى لليابان، وتجدر الإشارة إلى تضرر الاقتصاد اليابانى بفعل الحرب التجارية التى شنها ترامب على الصين فى فترة رئاسته الأولى، وحذرت التحليلات من أن خطط ترامب لفرض تعريفات جمركية بنسبة 60% على الواردات الصينية إلى الولايات المتحدة، و25% على السلع القادمة من المكسيك، و10% إلى 20% على الوارادات الأخرى من شأنها أن تؤدى إلى التضخم/ وزيادة عدم الاستقرار الاقتصادى العالمي، علمًا بأن هناك حوالى 20 ألف شركة تصنيع يابانية صغيرة ومتوسطة الحجم تعمل فى الصين، وسوف تجد قريبا صعوبة فى بيع منتجاتها فى الولايات المتحدة.
رجحت التحليلات أن تواجه طوكيو ضغوطا من أجل تأمين سلاسل إمدادها بعيدًا عن الصين، فضلًا عن ضغوطات للحد من صادراتها التكنولوجية إلى الصين، أو ربما الانفصال اقتصاديًا عنها، وهو ما سيضع اليابان فى تحدٍ لإيجاد توازن دقيق بين لعب دور استباقى كحليف قوى للولايات المتحدة والامتناع عن عزل الصين تمامًا، وربما تحفز عودة ترامب اليابان لأن تصبح أكثر اعتمادًا على نفسها، وتسرع الجهود الرامية إلى زيادة دور الاستهلاك المحلى فى دفع عجلة النمو بدلًا من الاعتماد على الصادرات، وخاصة فى القطاعات الرئيسة مثل صناعة السيارات وأشباه الموصلات والبطاريات، أو قد يدفعها الأمر نحو تطوير شراكات تجارية إقليمية كوسيلة لتعزيز أمنها الاقتصادى.
• • •
على الصعيد السياسى، فإن المشهد السياسى أقل استقرارًا، وأكثر انقسامًا، لا سيما بعدما فقد الحزب الليبرالى الديمقراطى الحاكم بقيادة رئيس الوزراء شيغيرو إيشيبا غالبيته فى البرلمان خلال الانتخابات التشريعية التى دعا إيشيبا لانعقادها مبكرًا على أمل تعزيز سلطته. وعلى هذا المنوال، فمن المرجح أن يواجه إيشيبا تحديات لدفع أجندته وسياساته، وقد تنزلق اليابان إلى فترة أخرى من عدم الاستقرار السياسى، يحدث فيها تناوب مستمر على منصب رئيس الوزراء، الأمر الذى سيختفى معه وجود سياسات واستراتيجيات واضحة للتعامل مع فترة ترامب .
إلى جانب هذا، فإن اليابان ستفتقد وجود زعامة قوية قادرة على تعزيز الدبلوماسية الشخصية بين طوكيو وواشنطن مثل تلك التى وفرها شينزو آبى فى فترة ترامب الأولى؛ حيث نجح آبى فى التعامل مع ترامب وقلل من تأثيرات سياساته وتوجهاته السلبية على اليابان. أما بالنسبة لـ إيشيبا ، فإن التقديرات تشير إلى افتقاده الشخصية التى تؤهله إلى تعزيز علاقاته الشخصية مع ترامب .
• • •
على هذا المنوال، فإنه من المتوقع أن تشهد الركائز الأساسية التى تقوم عليها العلاقات اليابانية الأمريكية العديد من التحديات فى فترة ترامب الثانية، وسيكون على اليابان الاستعداد للتعامل من جملة من التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية، وإثبات كونها شريكا مفيدا للولايات المتحدة فى المنطقة.
باحثة فى السياسة الدولية