شهدت الفترة الأخيرة محاولات من جانب الولايات المتحدة الأمريكية لتعزيز العلاقات الثلاثية بينها وبين اليابان وكوريا الجنوبية، وهى المحاولات التى جاء من أهمها عقد القمة الثلاثية فى كامب ديفيد بالولايات المتحدة فى ١٨ أغسطس الماضى، والتى قدمت وثائقها مجموعة متنوعة من الاتفاقيات، شملت عقد مؤتمرات قمة سنوية، والتنسيق بشأن تحقيق الأمن الاقتصادى وإدارة سلاسل التوريد للتكيف مع أى تغيرات عالمية، وتعزيز التعاون العسكرى مثل إجراء تدريبات عسكرية مشتركة، كما أكدت القمة التزام الأطراف بالتنسيق بينهم للرد على التحديات الإقليمية والاستفزازات والتهديدات التى تؤثر على مصالح الدول الثلاث وأمنها.
جاءت هذه القمة فى وقت تشهد فيه منطقة المحيطين الهندى والهادئ العديد من التغيرات الهامة؛ فمن ناحية تتزايد تهديدات كوريا الشمالية النووية والصاروخية، وتتزايد قوة الصين التى تنظر إليها واشنطن على أنها المنافس الوحيد الذى لديه النية والقدرة على إعادة تشكيل النظام الدولى. ومن ناحية أخرى، بدأت إدارة «جو بايدن» فى بناء تحالفات مع الدول ذات التفكير المماثل بالمنطقة، جاء من أبرزها الحوار الأمنى الرباعى (كواد) الذى يضم أستراليا والهند واليابان، وحلف (أوكوس) بالشراكة مع أستراليا والمملكة المتحدة.
أما فيما يتعلق بكوريا الجنوبية واليابان، فقد بذلت واشنطن جهودا مضنية لرأب الصدع فى العلاقات بين البلدين، والتى ترجع بالأساس إلى فترة الحرب العالمية الثانية، والجرائم والانتهاكات التى ارتكبها الجيش اليابانى فى حق الشعب الكورى، كما استغلت تخوف الدولتين من تنامى قوة الصين وكوريا الشمالية لمواءمة سياساتهما مع أهداف إدارة «بايدن» فى المنطقة. وبالرغم من هذا، فإن الخطوات الأمريكية لم تتسارع إلا بانتخاب الرئيس الكورى الجنوبى «يون سوك يول» فى مارس 2022، والذى أعطى الأولوية لتحقيق استقرار علاقات بلاده مع اليابان، كما دفع «يول» بخطة تمويل تسعى إلى الحصول على مساهمات من القطاع الخاص لتعويض الضحايا الكوريين الذين استغلتهم اليابان وأرغمتهم على العمل القسرى خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وقد وضع هذا الحل الأساس لتطبيع العلاقات مع اليابان.
• • •
إلا أن هذا التحالف مهدد بالانهيار. فمن جهة، يعتمد هذا التحالف على الحكومات الموجودة حاليا فى الدول الثلاث، ومن ثم فإنه مع اقتراب الانتخابات، لا سيما فى الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، قد تسقط الحكومات الجديدة من على قائمة أولوياتها هدف تعزيز هذا التحالف الثلاثى؛ إذ إن الخطوات التى اتخذها «يول» تجاه التقارب مع اليابان قد لا تتمكن من الصمود فى حال أسفرت الانتخابات البرلمانية القادمة فى أبريل 2024 عن فوز أحزاب المعارضة، لا سيما أن الحل الذى قدمه لتعويض المتضررين من السياسات الاستعمارية اليابانية لا يرضى عنه الكثير، فضلا عن وجود العديد من الأصوات التى ما تزال تطالب اليابان بتقديم الاعتذار عن الجرائم التى ارتكبتها فى حق الشعب الكورى. ويمكن القول إن هشاشة العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية الناجمة عن النزاعات التاريخية والإقليمية سوف تظل تشكل عقبة أمام تحقيق المرونة فى الشراكة الثلاثية.
ويأتى قرار طوكيو لإطلاق المياه المشعة من مفاعل فوكوشيما بالبحر كآخر حلقة فى سلسلة توتر العلاقات بين البلدين، إذ تسبب القرار فى عودة المشكلات السياسية بين طوكيو وسيول إلى السطح. وبالرغم من أن قرار اليابان إطلاق المياه المشعة المعالجة من محطة فوكوشيما المتضررة للطاقة النووية إلى المحيط الهادئ، بعد 12 عاما من دمار المحطة، قد لاقى ترحيبا من رئيس كوريا الجنوبية، لكنه يواجه رفضا ساحقا فى استطلاعات الرأى فى كوريا الجنوبية، لا سيما فى ظل تخوف البعض من تأثير التلوث الإشعاعى على الحياة والمأكولات البحرية، ومن المرجح أن تزيد قضية إطلاق المياه المشعة من محطة فوكوشيما من فرص هزيمة «يول» فى الانتخابات البرلمانية لعام 2024.
وفى سياق متصل، قد لا تستمر مستويات التنسيق الحالية مع الولايات المتحدة بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية فى العام المقبل، خاصة فى حال قام مرشح جمهورى بحسم الانتخابات لصالحه، ما ينذر بعودة سياسات شبيهة بالتى تبناها ترامب، والتى هدفت إلى سحب القوات الأمريكية من شبه الجزيرة الكورية ورفعت شعار «أمريكا أولا»، فهل تلتزم واشنطن فى مثل هذا السيناريو بتعهداتها حول الردع النووى ضد التهديدات النووية من كوريا الشمالية؟. أما بالنسبة لليابان، فهى لم تنس بعد قرار إدارة «ترامب» التخلى رسميا عن اتفاقية «الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ» فى عام 2016، وهو المشهد الأمريكى الذى قد يتكرر مرة أخرى بالنسبة للتحالف الثلاثى.
ومن جهة أخرى، فإن التحدى الآخر يتمثل فى كيفية تفعيل هذا التعاون الثلاثى، ليتعدى شبه الجزيرة الكورية ويتناول التنسيق، أو اتخاذ خطوات فعلية، حيال قضايا إقليمية أخرى مثل التوترات حول تايوان، وجزر المحيط الهادئ. وهنا يثار التساؤل حول كيفية قيام الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية بتنسيق استعداداتهم للتعامل مع أسوأ السيناريوهات، فهل يكون هناك على سبيل المثال، تعهد ثلاثى صريح بالعمل معا على منع أى محاولة لتغيير الوضع الراهن بالقوة فى مضيق تايوان؟ فمثل هذا التعهد يحتاج إلى توسيع التعاون إلى ما هو أبعد من الدفاع الصاروخى ليشمل المجالات الاستخباراتية والمراقبة وإنشاء مجموعة استشارية نووية ثلاثية، وإجراء تدريبات منتظمة، وبذل الجهود لضمان التوافق الفنى وقابلية التشغيل البينى.
• • •
علاوة على ما سبق، قد يتسبب هذا التحالف الثلاثى فى زيادة حدة العداء بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان من ناحية والصين وكوريا الشمالية وروسيا من ناحية أخرى. فمع نمو التعاون الأمنى الثلاثى، فإنه يمكن أن يؤدى إلى تفاقم المخاوف الأمنية لدى كوريا الشمالية والصين، مما يخلق أرضية خصبة للمزيد من المواقف الأمنية المتشددة، فضلا عن دفع الصين وروسيا وكوريا الشمالية لتعزيز شراكتهم العسكرية، بحيث ترتقى إلى تدريبات مشتركة منتظمة، وتدفع نحو تنسيق عسكرى كامل.
فبالنسبة لكوريا الشمالية، تعزز القمة شكوكها بأن الولايات المتحدة تريد تطوير تحالف عسكرى على غرار حلف شمال الأطلسى فى المنطقة، يعادى ويهدد مصالح بيونج يانج الأمنية. ومن ثم، يمكن أن تؤدى الشراكة الثلاثية إلى تحفيز العمليات العسكرية لكوريا الشمالية، مثل اختبارات الصواريخ بعيدة المدى. كما تنظر بكين أيضا إلى التحالفات الأمريكية فى المنطقة على أنها مناهضة للصين، وتجدر الإشارة إلى أن تكاليف اندلاع أى صراع عسكرى مع الصين ستتكبده بالأساس كوريا الجنوبية واليابان، وستكون تكاليف باهظة نظرا لقربهما الجغرافى من الصين. فبالرغم من محاولات طوكيو وسيول تنويع سلاسل التوريد، فإنهما لا يزالان يعتمدان بشكل كبير على الصين، الشريك التجارى الرئيس لكلا البلدين، لتحقيق استقرارهما الاقتصادى، وقد تضرر كلا البلدين بسبب الصراع الاقتصادى المتنامى بين الولايات المتحدة والصين اللذين يعتمد اقتصادهما بشكل كبير على العمال والمستهلكين الصينيين. ومن ثم، لا يفضل كثيرون فى كوريا الجنوبية واليابان نهج المواجهة الحاد فى التعامل مع الصين، نظرا للمصالح الأمنية والاقتصادية الحيوية لبلادهم.
إن مجرد توسيع التعاون العسكرى لن يؤدى إلا إلى جعل الوضع الأمنى فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ أسوأ، إذ تشتد حاجة المنطقة إلى وجود آليات دبلوماسية جماعية قوية قادرة على إدارة التوترات والحد منها، وتقليل مخاطر نشوب أزمات مع كوريا الشمالية أو الصين. ومن ثم، فإن محاولات تحويل الشراكة الثلاثية بين اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة إلى تحالف علنى مناهض للصين وكوريا الشمالية لا يخدم مصلحة أى من الأطراف الثلاثة.